Showing posts with label Ibn Sina (Avicenna). Show all posts
Showing posts with label Ibn Sina (Avicenna). Show all posts
الإلهيات
الشيخ الرئيس
ابن سينا

موقع الفلسفة الإسلامية

الفهرست

المقالة الأولى:
الفصل الأول: في ابتداء طلب موضوع الفلسفة الأولى لتبيين أبنيته في العلوم.
الفصل الثاني: في تحصيل موضوع هذا العلم.
الفصل الثالث: في منفعة هذا العلم ومرتبته واسمه.
الفصل الرابع: في جملة ما يتكلم فيه في هذا العلم.
الفصل الخامس: فصل في جملة ما يتكلم فيه في هذا العلم.
الفصل السادس: في ابتداء القول في الواجب الوجود والممكن الوجود...
الفصل السابع: فصل في أن واجب الوجود واحد.
الفصل الثامن: في بيان الحق والصدق والذب عن أول الأقاويل.

المقالة الثانية:
الفصل الأول: في تعريف الجوهر وأقسامه بقول كلي.
الفصل الثاني: في تحقيق الجوهر الجسماني وما يتركب منه وأول ذلك معرفة الجسم وتحقيق ماهيته.
الفصل الثالث: في أن المادة الجسمانية لا تتعرى عن الصورة.
الفصل الرابع: في تقديم الصورة على المادة في مرتبة الوجود.

المقالة الثالثة:
الفصل الأول: حال المقولات التسع في الإشارة إلى ما ينبغي أن يبحث عنه من حال المقولات التسع وفي عرضيتها.
الفصل الثاني: في الكلام في الواحد.
الفصل الثالث: في تحقيق الواحد والكثير وإبانة أن العدد عرض والذي يصعب علينا تحقيقه الآن ماهية الواحد.
الفصل الرابع: في أن المقادير أعراض وأما الكميات المتصلة فهي مقادير المتصلات.
الفصل الخامس: في تحقيق ماهية العدد وتحديد أنواعه، وبيان أوائله.
الفصل السادس: في تقابل الواحد والكثير.
الفصل السابع: في أن الكيفيات أعراض.
الفصل الثامن: في العلم وأنه عرض.
الفصل التاسع: في الكيفيات التي في الكميات وإثباتها.
الفصل العاشر: في المضاف.

المقالة الرابعة:
الفصل الأول: في المتقدم والمتأخر وفي الحدوث.
الفصل الثاني: في القوة والفعل والقدرة والعجز وإثبات المادة لكل متكون.
الفصل الثالث: في التام والناقص وما فوق التمام، وفي الكل، وفي الجميع التام.

المقالة الخامسة:
الفصل الأول: في الأمور العامة وكيفية وجودها.
الفصل الثاني: في كيفية كون الكلية للطبائع الكلية وإتمام القول في ذلك، وفي الفرق بي الكل والجزء، والكلي والجزئي.
الفصل الثالث: في الفصل بين الجنس والمادة.
الفصل الرابع: دخول المعاني الخارجة عن الجنس على طبيعة الجنس في كيفية دخول المعاني الخارجة عن الجنس على طبيعة الجنس.
الفصل الخامس: في النوع وأما النوع فإنه الطبيعة المتحصلة في الوجود وفي العقل جميعاً.
الفصل السادس: في تعريف الفصل وتحقيقه.
الفصل السابع: في تعريف مناسبة الحد والمحدود.
الفصل الثامن: في الحد
الفصل التاسع: في مناسبة الحد وأجزائه

المقالة السادسة:
الفصل الأول: في أقسام العلل وأحوالها.
الفصل الثاني: في كل علة هي مع معلولها في حل ما يتشكك به على ما يذهب إليه أهل الحق من أن كل علة هي مع معلولها...
الفصل الثالث: في مناسبة ما بين العلل الفاعلية ومعلولاتها.
الفصل الرابع: في العلل الأخرى العنصرية والصورية والغائبة.
الفصل الخامس: في إثبات الغاية وحل شكوك قيلت في إبطالها...

المقالة السابعة:
الفصل الأول: في لواحق الوحدة من الهوية وأقسامها ولواحق الكثرة من الغيرية والخلاف وأصناف التقابل المعروفة.
الفصل الثاني: في مذاهب الحكماء الأقدمين...
الفصل الثالث: في إبطال القول بالتعليميات والمثل.

المقالة الثامنة: في معرفة المبدأ الأول للوجود كله ومعرفة صفاته:
الفصل الأول: في تناهي العطل الفاعلية والقابلية.
الفصل الثاني: في شكوك تلزم ما قيل وحلها.
الفصل الثالث: في إبانة تناهي العلل الغائية والصورية وإثبات المبدأ الأول مطلقا...
الفصل الرابع: في الصفات الأولى للمبدأ الواجب الوجود.
الفصل الخامس: في توحيد واجب الوجود كأنه توكيد وتكرار لما سلف من توحيد واجب الوجود وجميع صفاته السلبية على سبيل الإنتاج.
الفصل السادس: في إنه تام بل فوق التام وخير، ومفيد كل شيء بعده، وأنه حق، وأنه عقل محض...
الفصل السابع: في نسبة المعقولات إليه وفي إيضاح أن صفاته الإيجابية والسلبية لا توجب في ذاته كثرة...

المقالة التاسعة: في صدور الأشياء عن التدبير الأول والمعاد إليه:
الفصل الأول: في صفة فاعلية المبدأ الأول.
الفصل الثاني: في أن المحرك القريب للسماويات لا طبيعة ولا عقل، بل نفس، والمبدأ الأ بعد عقل.
الفصل الثالث: في كيفية صدور الأفعال من المبادئ العالية.
الفصل الرابع: في ترتيب وجود العقل والنفوس السماوية والأجرام العلوية عن المبدأ الأول.
الفصل الخامس: في حال تكون الإسطقسات عن العلل الأوائل.
الفصل السادس: في العناية وبيان كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي.
الفصل السابع: في المعاد.

المقالة العاشرة:
الفصل الأول: في المبدأ والمعاد.
الفصل الثاني: في إثبات النبوة وكيفية دعوة النبي إلى الله تعالى، والمعاد إليه.
الفصل الثالث: في العبادات ومنفعتها في الدنيا والآخرة.
الفصل الرابع: في عقد المدينة وعقد البيت وهو نكاح والسنن الكلية في ذلك.
الفصل الخامس: في الخليفة والإمام ووجوب طاعتهما، والإشارة إلى السياسات والمعاملات والأخلاق.



الصفحة : 1
المقالة الأولى
وفيها ثمانية فصول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلاته على النبي المصطفى محمد وآله الإكرمين أجمعين.
الفن الثالث عشر من كتاب الشفاء في الإلهيات.
المقالة الأولى وهي ثمانية فصول
الفصل الأول:
في ابتداء طلب موضوع الفلسفة الأولى لتبيين أبنيته في العلوم.
وإذا قد وفقنا الله ولي الرحمة والتوفيق، فأوردنا ما وجب إيراده من معاني العلوم المنطقية والطبيعية والرياضية، فبالحري أن نشرع في تعريف المعاني الحكمية، ونبتدئ مستعينين بالله فنقول: إن العلوم الفلسفية، كما قد أشير إليه في مواضع أخرى من الكتب، تنقسم إلى النظرية وإلى العملية، قد أشير إلى الفرق بينهما وذُكر أن النظرية هي التي نطلب فيها استكمال القوة النظرية من النفس بحصول العقل بالفعل، وذلك بحصول العلم التصوّري والتصديقي بأمور ليست هي هي بأنها من أعمالنا وأحوالنا، فتكون الغاية فيها حصول رأي واعتقاد ليس رأياً واعتقاداً في كيفية عمل أو كيفية مبدأ عمل من حيث هو مبدأ عمل. وأن العملية هي التي يتطلب فيها أولاً استكمال القوة النظرية بحصول العلم التصوّري والتصديقي بأمور هي هي بأنها أعمالنا، ليحصل منها ثانياً استكمال القوة العملية بالأخلاق. وذكر أن النظرية تنحصر في أقسام ثلاثة هي: الطبيعية، والتعليمية، والإلهية. وأن الطبيعية موضوعها الأجسام من جهة ما هي متحركة وساكنة، وبحثها عن العوارض التي تعرض لها بالذات من هذه الجهة. وأن التعليمية موضوعها إما ما هو كم مجرد عن المادة بالذات، وإما هو ذو كم. والمبحوث عنه فيها أحوال تعرض للكم بما هو كم. ولا يؤخذ في حدودها نوع مادة، ولا قوة حركة. وأن الإلهية تبحث عن الأمور المفارقة للمادة بالقوام والحد. وقد سمعت أيضاً أن الإلهي هو الذي يبحث في الأسباب الأولى للوجود الطبيعي والتعليمي وما يتعلق بهما، وعن مسبب الأسباب ومبدأ المبادئ وهو
الصفحة : 2
الإله تعالى جده. فهذا هو قدر ما يكون قد وقفت عليه فيما سلف لك من الكتب. ولم يتبين لك من ذلك الموضوع للعلم افلهي ما هو بالحقيقة إلاّ إشارة جرت في كتاب البرهان من المنطق إن تذكرتها. وذلك أن في سائر العلوم قد كان يكون لك شيء هو موضوع، وأشياء هي المطلوبة، ومبادئ مسلمة منها تؤلف البراهين. والآن، فلست تحقق حق التحقيق ما الموضوع لهذا العلم، وهل هو ذات العلة الأولى حتى يكون المراد معرفة صفاته وأفعاله أو معنى آخر. وأيضاً قد كنت تسمع أن ههنا فلسفة بالحقيقة، وفلسفة أولى، وأنها تفيد تصحيح مبادئ سائر العلوم، وأنها هي الحكمة بالحقيقة. وقد كنت تسمع تارة أن الحكمة هي أفضل علم بأفضل معلوم، وأخرى أن الحكمة هي المعرفة التي هي أصح معرفة واتقنها، وأخرى أنها العلم بالأسباب الأولى للكل. وكنت لا تعرف ما هذه الفلسفة الأولى، وما هذه الحكمة، وهل الحدود والصفات الثلاث لصناعة واحدة، أو لصناعات مختلفة كل واحدة منها تسمى حكمة. ونحن نبين لك الآن أن هذا العلم الذي نحن بسبيله هو الفلسفة الأولى، وأنه الحكمة المطلقة، وأن الصفات الثلاث التي رُسم بها الحكمة هي صفات صناعة واحدة، وهذه هي الصناعة. وقد علم أن لكل علم موضوعاً يخصه، فلنبحث الأن عن الموضوع لهذا العلم، ما هو؟ ولننظر هل الموضوع لهذا العلم هو إنية الله تعالى جده، أو ليس كذلك، بل هو شيء من مطالب هذا العلم؟ فنقول: أنه لا يجوز أن يكون ذلك هو الموضوع، وذلك لأن موضوع كل علم هو أمر مسلّم الوجود في ذلك العلم، وإنما يبحث عن أحواله. وقد عُلم هذا في مواضع أخرى. ووجود الإله تعالى جده لا يجوز أن يكون مسلّماً في هذا العلم كالموضوع، بل هو مطلوب فيه. وذلك لإنه إن لم يكن كذلك لم يخل إما أن يكون مسلّماً في هذا العلم أو مطلوباً في علم آخر، وإما أن يكون مسلّماً في هذا العلم وغير مطلوب في علم آخر. وكلا الوجهين باطلان. وذلك لأنه لا يجوز أن يكون مطلوباً في علم آخر، لأن العلوم الأخرى إما خلقية أو سياسية، وإما طبيعية، ومارياضية، وإما منطقية. وليس في العلوم الحكمية علم خارج عن هذه القسمة، وليس ولا في شيء منها يُبحث عن إثبات الأله تعالى جده، ولا يجوز أن يكون ذلك، وأنت تعرف هذا بأدنى تأمل لأصول كررت عليك. ولا يجوز أيضاً أن يكون غير مطلوب في علم آخر لأنه يكون حينئذ غير مطلوب في علك البتّة. فيكون إما بيّناً بنفسه، وإما مأيوساً عن بيانه بالنظر، وليس بيّناً بنفسه ولا مأيوساً عن بيانه، فإن عليه دليلاً. ثم المأيوس عن بيانه كيف يصح تسليم وجوده؟ فبقي أن نبحث عنه إنما هو

الصفحة : 3
في هذا العلم. ويكون البحث عنه على وجهين: أحدهما البحث عنه من جهة وجوده، والآخر من جهة صفاته. وإذا كان البحث عن وجوده في هذا العلم، لم يجز أن يكون موضوع هذا العلم، فإنه ليس على علم من العلوم إثبات موضوعه، وسنبين لك عن قريب أيضاً، أن البحث عن وجوده لا يجوز ان يكون إلاّ في هذا العلم، إذ قد تبين لك من حال هذا العلم أنه بحث عن المفارقات للمادة أصلاً. وقد لاح لك في الطبيعيات أن الإله غير جسم، ولا قوة جسم، بل هو واحد بريئ عن المادة، وعن مخالطة الحركة من كل جهة. فيجب أن يكون البحث عنه لهذا العلم. والذي لاح لك من ذلك في الطبيعيات كان غريباً عن الطبيعيات، ومستعملاً فيها، منه ما ليس منها، إلاّ أنه أريد بذلك أن يُعجَّل للإنسان وقوف على إنية المبدأ الأول فتتمكن منه الرغبة في اقتباس العلوم، والإنسياق إلى المقام الذي هناك ليتوصل إلى معرفته بالحقيقة. ولما لك يكن بد من أن يكون لهذا العلم موضوع وتبين لك أن الذي يُظن أنه هو موضوعه ليس بموضوعه، فلننظر: هل موضوعه الأسباب القصوى للموجودات كلها أربعتها إلاّ واحداً منها الذي لم يكن القول به. فإن هذا أيضاً قد يظنه قوم. لكن النظر في الأسباب كلها أيضاً لا يخلو إما أن ينظر فيها بما هي موجودات أو بما هي أسباب مطلقة، أو بما هي كل واحد من الأربعة على النحو الذي نحصه. أعني أن يكون النظر فيها من جهة أن هذا فاعل، وذلك قابل، وذلك شيء آخر؛ أو من جهة ما هي الجملة التي تجمع منها. فنقول: لا يجوز أن يكون النظر فيها بما هي أسباب مطلقة، حتى يكون الغرض من هذا العلم هو النظر في الأمور التي تعرض للأسباب بما هي أسباب مطلقة. ويظهر هذا من وجوه: أحدهما، من جهة أن هذا العلم يبحث عن معان ليست هي من الأعراض الخاصة بالأسباب بما هي أسباب، مثل الكلي والجزئي، والقوة والفعل، والإمكان والوجوب وغير ذلك. ثم من البين الواضح أن هذه الأمور في أنفسها بحيث يجب أن يبحث عنها، ثم ليست من الأعراض الخاصة بالأمور الطبيعية والأمور التعليمية. ولا هي أيضاً واقعة في الأعراض الخاصة بالعلوم العملية. فيبقى أن يكون البحث عنها للعلم الباقي من الأقسام وهو هذا العلم. وايضاً فأن العلم بالأسباب المطلقة حاصل بعد العلم بإثبات الأسباب للأمور ذوات الأسباب. فإنا ما لم نثبت وجود الأسباب للمسبّبات من الأمور بإثبات أن لوجودها تعلقاً بما يتقدمها في الوجود، لم يلزم عند العقل وجود السبب المطلق، وأن ههنا سبباً ما. وأما الحس فلا يؤدي إلاّ إلى الموافاة. وليس إذا توافى
الصفحة : 4
شيئان، وجب أن يكون أحدهما سبباً للآخر. والإقناع الذي يقع للنفس لكثرة ما يورده الحس والتجربة فغير متأكد، على ما علمت، إلاّ بمعرفة أن الأمور التي هي موجودة في الأكثر هي طبيعية واختيارية. وهذا في الحقيقة مستند إلى إثبات العلل، والإقرار بوجود العلل والأسباب. وهذا ليس بيّناً أولياً بل هو مشهود، وقد علمت الفرق بينهما. وليس إذا كان قريباً من العقل، من البين بنفسه أن للحادثات مبدأ ما يجب أن يكون بيّناً بنفسه مثل كثير من الأمور الهندسية المبرهن عليها في كتاب أوقليدس. ثم البيان البرهاني لذلك ليس في العلوم الأخرى، فإذن يجب أن يكون في هذا العلم. فكيف يمكن أن يكون الموضوع للعلم المبحوث عن أحواله في المطالب مطلوب الوجود فيه؟ وإذا كان كذلك فبيّن أيضاً أنه ليس البحث عنها من جهة الوجود الذي يخص كل واحد منها، لأن ذلك مطلوب في هذا العلم. ولا أيضاً من جهة ما هي جملة ما وكل، لست أقول جملي وكلي. فإن النظر في أجزاء الجملة أقدم من النظر في الجملة، وإن لم يكن كذلك في الجزيئيات الكلي باعتبار قد علمته، فيجب أن يكون النظر في الأجزاء إما في هذا العلم فتكون هي أولى بأن تكون موضوعه، أو يكون في علم آخر، وليس علم آخر يتضمن الكلام في الأسباب القصوى غير هذا العلم. وأما إن كان النظر في الأسباب من جهة ما هي موجودة وما يلحقها من تلك الجهة فيجب إذن أن يكون الموضوع الأول هو الموجود بما هو موجود. فقد بان أيضاً بطلان هذا النظر، وهو أن هذا العلم موضوعه الأسباب القصوى، بل يجب أن يُعلم أن هذا كماله ومطلوبه.
الفصل الثاني: (ب) (الصفحة : 5 )
فصل في تحصيل موضوع هذا العلم
فيجب أن ندل على الموضوع الذي لهذا العلم لا محالة حتى يتبين لنا الغرض الذي هو في هذا العلم، فنقول: إن العلم الطبيعي قد كان موضوعه الجسم، ولم يكن من جهة ما هو موجود، ولا من جهة ما هو جوهر، ولا من جهة ما هو مؤلف من مبدئيه، أعني الهيولي والصورة، ولكن من جهة ما هو موضوع للحركة والسكون. والعلوم التي تحت العلم الطبيعي أبعد من ذلك. وكذلك الخلقيات. وأما العلم الرياضي فقد كان موضوعه إما مقداراً مجرداً في الذهن عن المادة، وإما مقداراً مأخوذاً في الذهن مع مادة، وإما عدداً مجرداً عن المادة، وإما عدداً في مادة. ولم يكن أيضاً ذلك البحث متجهاً إلى إثبات أنه مقدار مجرد أو في مادة أو عدد مجرد أو في مادة، بل كان من جهة الأحوال التي تعرض له بعد وضعه. كذلك والعلوم التي تحت الرياضيات أولى بان لا يكون نظرها إلاّ في العوارض التي يلحق أوضاعاً أخص من هذه الأوضاع. والعلم المنطقي، كما علمت، فقد كان موضوعه المعاني المعقولة الثانية التي تستند إلى المعاني المعقولة الأولى من جهة كيفية ما يتوصل بها من معلوم إلى مجهول، لا من جهة ما هي معقولة ولها الوجود العقلي الذي لا يتعلق بمادة أصلاً أو يتعلق بمادة غير جسمانية. ولم يكن غير هذه العلوم علوم أخرى. ثم البحث عن حال الجوهر بما هو موجود وجوهر، وعن الجسم بما هو جوهر، وعن المقدار والعدد بما هما موجودان، وكيف وجودهما، وعن الأمور الصورية التي ليست في مادة أو هي مادة غير مادة الأجسام، وأنها كيف تكون وأي نحو من الوجود يخصها، فما يجب أن يجرد له البحث. وليس يجوز أن يكون من جملة العلم بالمحسوسات، ولا من جملة العلم بما وجوده في المحسوسات، لكن التوهم والتحديد يجرده من المحسوسات. فهو إذن من جملة العلم بما وجوده مباين. أما الجوهر فبيّن أن وجوده بما هو جوهر فقط غير متعلق بالمادة وإلا لما كان جوهر إلاّ محسوساً. وأما العدد فقد يقع على المحسوسات وغير المحسوسات، فهو بما هو عدد غير متعلق بالمحسوسات. وأما المقدار فلفظه أسم مشترك، فيه ما يقال له مقدار، ويعنى به البعد المقوم للجسم الطبيعي، ومنه ما يقال مقدار، ويعنى به كمية متصلة تقال على الخط والسطح والجسم المحدود. وقد عرفت الفرق بينهما.
الصفحة : 6
وليس ولا واحد منهما مفارقاً للمادة، ولكن المقدار بالمعنى الأول وإن كان لا يفارق المادة فإنه أيضاً مبدأ لوجود الأجسام الطبيعية. فإذا كان مبدأ لوجودها لم يجز أن يكون متعلق القوام بها، بمعنى أنه يستفيد القوام من المحسوسات، بل المحسوسات تستفيد منه القوام. فهو إذا أيضاً متقدم بالذات على المحسوسات. وليس الشكل كذلك، فإن الشكل عارض لازم للمادة بعد تجوهرها جسماً متناهياً موجوداً وحملها سطحاً متناهياً. فإن الحدود تجب للمقدار من جهة استكمال المادة به وتلزمه من بعد. فإذا كان كذلك لم يكن الشكل موجوداً إلاّ في المادة ولا علة أولية لخروج المادة إلى الفعل. وأما المقدار بالمعنى الآخر فإن فيه نظراً من جهة وجوده، ونظراً من جهة عوارضه. فأما النظر في أن وجود أيّ أنحاء الوجود هو، ومن أي أقسام الموجود، فليس هو بحثاً أيضاً عن معنى متعلق بالمادة. فأما موضوع المنطق من جهة ذاته فظاهر أنه خارج عن المحسوسات. فبين أن هذه كلها تقع في العلم الذي يتعاطى ما لا يتعلق قوامه بالمحسوسات، ولا يجوز أن يوضع لها موضوع مشترك تكون هي كلها حالاته وعوارضه إلاّ الموجود. فإن بعضها جواهر، وبعضها كميات، وبعضها مقولات أخرى؛ وليس يمكن أن يعمهما معنى محقق إلاّ حقيقة معنى الوجود. وكذلك قد يوجد أيضاً أمور يجب أن تتحدد وتتحقق في النفس، وهي مشتركة في العلوم. وليس ولا واحد من العلوم يتولّى الكلام فيها مثل الواحد بما هو واحد، والكثير بما هو كثير، والموافق والمخالف، والضد وغير ذلك، فبعضها يستعملها استعمالاً فقط، وبعضها إنما يأخذ حدودها، ولا يتكلم في نحو وجودها. وليست عوارض خاصة لشيء من موضوعات هذه العلوم الجزئية. وليست من الأمور التي يكون وجودها إلاّ وجود الصفات للذوات ولا أيضاً هي من الصفات التي تكون لكل شيء. فيكون كل واحد منها مشتركاً لكل شيء ولا يجوز ان يختص أيضاً بمقولة ولا يمكن أن يكون من عوارض شيء إلاّ الموجود بما هو موجود. فظاهر لك من هذه الجملة أن الموجود بما هو موجود أمر مشترك لجميع هذه، وأنه يجب أن يجعل الموضوع لهذه الصناعة لما قلنا. ولأنه غني عن تعليم ماهيته وعن إثباته، حتى يحتاج إلى أن يتكفل علم غير هذا العلن بإيضاح الحال فيه لإستحالة أن يكون إثبات الموضوع وتحقيق ماهيته في العلم الذي هو موضوعه بل تسليم إنيته وماهيته فقط. فالموضوع الأول لهذا العلم هو الموجود بما هو موجود؛ ومطالبُه الأمور التي تلحقه بما هو موجود من غير شرط. وبعض هذه الأمور هي له كالأنواع: كالجوهر والكم والكيف؛ فإنه ليس يحتاج الموجود في أن ينقسم
الصفحة : 7
إليها، إلى إنقسام قبلها، حاجة الجوهر إلى انقسامات، حتى يلزمه الإنقسام إلى الإنسان وغير الإنسان. وبعض هذه كالعوارض الخاصة، مثل الواحد والكثير، والقوة والفعل، والكلي والجزئي، والممكن والواجب؛ فإنه ليس يحتاج الموجود في قبول هذه الأعراض والاستعداد لها إلى أن يتخصص طبيعياً أو تعليمياً أو خلقياً أو غير ذلك. ولقائل أن يقول، إنه إذا جعل الموجود هو الموضوع لهذا العلم لم يجز أن يكون إثبات مبادئ الموجودات فيه، لأن البحث في كل علم هو عن لواحق موضوعه لا عن مبادئه. فالجواب عن هذا أن النظر في المبادئ أيضاً هو بحث عن عوارض هذا الموضوع، لأن الموجود كونه مبدأ غير مقوم له ولا ممتنع فيه؛ بل هو بالقياس إلى طبيعة الموجود أمر عارض له، ومن العوارض الخاصة به. لأنه ليس شيء أعم من الموجود، فيلحق غيره لحوقاً أولياً. ولا أيضاً يحتاج الموجود إلى أن يصير طبيعياً أو تعليمياً أو شيئاً آخر حتى يعرض له أن يكون مبدأ. ثم المبدأ ليس المبدأ للموجود كله، ولو كان المبدأ للموجود كله لكان مبدأ لنفسه؛ بل الموجود كله لا مبدأ له، إنما المبدأ للموجود المعلول. فالمبدأ هو مبدأ لبعض الموجود. فلا يكون هذا العلم يبحث عن مبادئ الموجود مطلقاً، بل إنما يبحث عن مبادئ بعض ما فيه كسائر العلوم الجزئية؛ فإنها وإن كانت لا تبرهن على وجود مبادئها المشتركة، إذ لها مبادئ يشترك فيها جميع ما ينحوه كل واحد منها، فإنها تبرهن على وجود ما هو مبدأ لما بعدها من الأمور التي فيها. ويلزم هذا العلم أن ينقسم ضرورة إلى أجزاء منها: ما يبحث عن الأسباب القصوى، فإنها الأسباب لكل موجود معلول من جهة وجوده، ويبحث عن السبب الأول الذي يفيض عنه كل موجود معلول بما هو موجود معلول لا بل ما هو. وجود متحرك فقط أو متكمّم فقط. ومنها ما يبحث عن العوارض للموجود. ومنها مايبحث عن مبادئ العلوم الجزئية. ولأن مبادئ كل علم أخص هي مسائل العلم في الأعلى، مثل مبادئ الطب في الطبيعي، والمساحة في الهندسة، فيعرض إذن في هذا العلم أن يتضح فيه مبادئ العلوم الجزئية التي تبحث عن أحوال الجزئيات الموجودة. فهذا العلم يبحث عن أحوال الموجود، والأمور التي هي له كالأقسام والأنواع، حتى يبلغ إلى تخصيص يحدث معه موضوع العلم الطبيعي فيسلمه إليه، وتخصيص يحدث معه موضوع الرياضي فيسلمه إليه، وكذلك في غير ذلك. وما قبل ذلك التخصيص كالمبدأ فنبحث عنه ونقرر حاله.فتكون إذن مسائل هذا العلم في أسباب الموجود المعلول بما هو موجود معلول، وبعضها في عوارض الموجود، وبعضها في مبدئ العلوم الجزئية.
الصفحة : 8
فهذا هو العلم المطلوب في هذه الصناعة وهو الفلسفة الأولى، لأنه العلم بأول الأمور في الوجود، وهو العلة الأولى وأول الأمور في العموم، وهو الوجود والوحدة. وهو أيضاً الحكمة التي هي أفضل علم بافضل معلوم؛ فإنها أفضل علم أي اليقين، بأفضل المعلوم أي الله تعالى وبالأسباب من بعده. وهو أيضاً معرفة الأسباب القصوى للكل. وهو أيضاً المعرفة بالله، وله حد العلم الإلهي الذي هو أنه علم بالأمور المفارقة للمادة في الحد والوجود.إذ الموجود بما هو موجود ومبادئه وعوارضه ليس شيء منها، كما اتضح، إلاّ متقدم الوجود على المادة وغير متعلق الوجود بوجودها. وإن البحث في هذا العلم عما لا يتقدم المادة، فإنما يُبحث فيه عن معنى. ذلك المعنى غير محتاج الوجود إلى المادة، بل الأمور المبحوث عنها فيه هي أقسام أربعة: فبعضها بريئة عن المادة وعلائق المادة أصلاً. وبعضها يخالط المادة، ولكن مخالطة السبب المقوم المتقدم وليست المادة بمقوم له. وبعضها قد يوجد في المادة وقد توجد لا في المادة مثل العلية والوحدة، فيكون الذي لها بالشركة بما هي هي أن لا تكون مفتقرة التحقق إلى وجود المادة، وتشترك هذه الجملة أيضاً في أنها غير مادية الوجود أي غير مستفادة الوجود من المادة. وبعضها أمور مادية، كالحركة والسكون، ولكن ليس المبحوث عنه في هذا العلم حالها في المادة، بل نحو الوجود الذي لها. فإذا أخذ هذا القسم مع الأقسام الأخرى اشتركت في في أن نحو البحث عنها هو من جهة معنى غير قائم الوجود بالمادة. وكما أن العلوم الرياضية قد كان يوضع فيها ما هو متحدد بالمادة، لكن نحو النظر والبحث عنه كان من جهة معنى غير متحدد بالمادة، وكان لا يخرجه تعلق ما يبحث عنه بالمادة عن أن يكون البحث رياضياً، كذلك الحال ههنا. فقد ظهر ولاح أن الغرض في هذا العلم أي شيء هو. وهذا العلم يشارك الجدل والسفسطة من وجه، ويخالفهما من وجه، ويخالف كل واحد منهما من وجه. أما مشاركتهما فلأن ما يبحث عنه في هذا العلم لا يتكلم فيه صاحب علم جزئي، ويتكلم فيه الحدلي والسوفسطائي. وأما المخالفة فلأن الفيلسوف الأول من حيث هو فيلسوف أول لا يتكلم في مسائل العلوم الجزئية وذانك يتكلمان. وأما مخالفته للجدل خاصة فبالقوة، لأن الكلام الجدلي يفيد الظن لا اليقين كما علمت في صناعة المنطق. وأما مخالفة السوفسطائية فبالإرادة، وذلك لأن هذا يريد الحق نفسه، وذلك يريد أن يظن به انه حكيم يقول الحق وإن لم يكن حكيماً.
الفصل الثالث: (ج)
الصفحة : 9
فصل في منفعة هذا العلم ومرتبته واسمه
وأما منفعة هذا العلم، فيجب أن تكون قد وقفت في العلوم التي قبل هذا على أن الفرق بين النافع وبين الخير ما هو، وأن الفرق بين الضار وبين الشر ما هو، وأن النافع هو السبب الموصل بذاته إلى الخير، والمنفعة هي المعنى الذي يوصل به الشر إلى الخير. وإذ قد تقرر هذا فقد علمت أن العلوم كلها تشترك في منفعة واحدة وهي: تحصيل كمال النفس الإنسانية بالفعل مهيئة إياها للسعادة الأخروية. ولكنه إذا فُتش في رؤوس الكتب عن منفعة العلوم لم يكن القصد متجهاً إلى هذا المعنى، بل إلى معونة بعضها في بعض، حتى تكون منفعة علم ما هي معنى يتوصل منه إلى تحقيق علم آخر غيره. وإذا كانت المنفعة بهذا المعنى فقد يقال قولاً مطلقاً، وقد يقال قولاً متخصصاً. فأما المطلق فهو أن يكون النافع موصلاً إلى تحقيق علم آخر كيف كان، وأما المتخصص فأن يكون النافع موصلاً إلى ما هو أجلّ منه، وهو الغاية له إذ هو لأجله بغير انعكاس. فإذا أخذنا المنفعة بالمعنى المطلق كان لهذا العلم منفعة. وإذا أخذنا المنفعة بالمعنى المتخصص كان هذا العلم أجل من أن ينفع في علم غيره، بل سائر العلوم تنتفع به. لكن إذا قسمنا المنفعة المطلقة إلى أقسامها كانت ثلاثة أقسام: قسم يكون الموصل منه موصلاً إلى معنى أجل منه؛ وقسم يكون الموصل منه موصلاً إلى معنى مساوٍ له؛ وقسم يكون الموصل منه موصلاً إلى معنى دونه، وهو أن يفيد في كمال دون ذاته. وهذا إذا طلب له أسم خاص كان الأولى به الإفاضة، والإفادة، والعناية، والرياسة، أو شيء مما يشبه هذا إذا استقريت الألفاظ الصالحة في هذا الباب عثرت عليه. والمنفعة المتخصصة قريبة من الخدمة. وأما الإفادة التي تحصل من الأشرف في الأخس فليس تشبه الخدمة. وأنت تعلم أن الخادم ينفع المخدوم، والمخدوم أيضاً ينفع الخادم، أعني المنفعة إذا أخذت مطلقة ويكون نوع كل منفعة ووجه الخاص نوعاً آخر، فمنفعة هذا العلم الذي بيّنا وحهها هي إفادة اليقين بمبادئ العلوم الجزئية، والتحقق لماهية الأمور المشترك فيها، وإن لم تكن مبادئ. فهذا إذن منفعة الرئيس للمرؤوس، والمخدوم للخادم، إذ نسبة هذا العلم إلى العلوم الجزئية نسبة الشيء الذي هو المقصود معرفته في هذا العلم إلى الأشياء المقصود معرفتها في تلك العلوم. فكما أن ذلك مبدأ لوجود تلك، فكذلك العلم به مبدأ لتحقق العلم بتلك.
الصفحة : 10
وأما مرتبة هذا العلم فهي أن يتعلم بعد العلوم الطبيعية والرياضية. أما الطبيعية، فلأن كثيراً من الأمور المسلّمة في هذا مما تبين في علم الطبيعي مثل: الكون، والفساد، والتغير، والمكان، والزمان وتعلق كل متحرك بمحرك، وانتهاء المتحركات إلى محرك أول، وغير ذلك. وأما الرياضية، فلأن الغرض الأقصى في هذا العلم هو تدبير الباري تعالى، ومعرفة الملائكة الروحانية وطبقاتها، ومعرفة النظام في ترتيب الأفلاك، ليس يمكن أن يتوصل إلاّ بعلم الهيئة، وعلم الهيئة لا يتوصل إليه إلاّ بعلم الحساب والهندسة. وأما الموسيقى وجزئيات الرياضيات والخلقيات والسياسة فهي نوافع غير ضرورية في هذا العلم. إلاّ أن لسائل أن يسأل فيقول: إنه إذا كانت المبادئ في علم الطبيعة والتعاليم إنما تبرهَن في هذا العلم وكانت مسائل العلمين تُبرهن بالمبادئ، وكانت مسائل ذينك العلمين تصير مبادئ لهذا العلم، كان ذلك بياناً دورياً ويصير آخر الأمر بياناً للشيء من نفسه، والذي يجب أن يقال في حل هذه الشبهة هو ما قد قيل وشرح في كتاب البرهان. وإنما نورد منه مقدار الكفاية في هذا الموضوع فنقول: إن المبدأ للعلم ليس إنما يكون مبدأ لأن جميع المسائل تستند في براهينها إليه بفعل أو بقوة، بل ربما كان المبدأ مأخوذاً في براهين بعض هذه المسائل، ثم قد يجوز أن تكون في العلوم مسائل براهينها لا تستعمل وصفاً البتة؛ بل إنما تستعمل المقدمات التي لا برهان عليها. على أنه إنما يكون مبدأ العلم بالحقيقة إذا كان يفيد أخذه اليقين المكتسب من العلة، وأما إذا كان ليس يفيد العلة، فإنما يقال له مبدأ العلم على نحوٍ آخر. وبالحري أن يقال له مبدأ على حسب ما يقال للحس مبدأ، من جهة أن الحس بما هو حس يفيد الوجود فقط. فقد ارتفع إذن الشك، فإن المبدأ الطبيعي يجوز أن يكون بيّناً بنفسه، ويجوز أن يكون بيانه في الفلسفة الأولى بما ليس يتبين به فيما بعد، ولكن أنما تتبين به مسائل أخرى حتى يكون ما هو مقدمة في العلم الأعلى لإنتاج ذلك المبدأ لا يتعرض له في انتاجه من ذلك المبدأ، بل له مقدمة أخرى. وقد يجوز أن يكون العلم الطبيعي أو الرياضي أفادنا برهان "أن" وإن لم يفدنا فيه برهان "اللم" ثم يفيدنا هذا العلم فيه برهان "لِمَ" خصوصاً في العلل الغائية البعيدة. فقد اتضح إنه إما أن يكون ما هو مبدأ بوجه ما لهذا العلم من المسائل التي في العلوم الطبيعية ليس في بيانه من مبادئ تتبين في هذا العلم، بل من مبادئه بيّنة بنفسها؛ وإما أن يكون بيانه من مبادئ هي مسائل في هذا العلم، لكن ليس تعود فتصير مبادئ لتلك المسائل لعينها بل لمسائل أخرى؛ وإما أن تكون تلك
الصفحة : 11
المبادئ لأمور من هذا العلم لتدل على وجود ما يراد أن نبين في هذا العلم لمّيته. ومعلوم أن هذا الأمر إذا كان على هذا الوجه لم يكن بيان دور البتة، حتى يكون بياناً يرجع إلى أخذ الشيء في بيان نفسه. ويجب أن تعلم أن في نفس الأمر طريقاً إلى أن يكون الغرض من هذا العلم تحصيل مبدأ إلاّ بعد علم آخر. فإنه سيتضح لك فيما بعد إشارة إلى أن لنا سبيلاً إلى إثبات المبدأ الأول لا من طريق الإستدلال من الأمور المحسوسة، بل من طريق مقدمات كلية عقلية توجب للوجود مبدأ واجب الوجود وتمنع أن يكون متغيراً أو متكثرأ في جهة، وتوجب أن يكون هو مبدأ للكل، وأن يكون الكل يجب عنه على ترتيب الكل. لكن لعجز أنفسنا لا نقوى على سلوك ذلك الطريق البرهاني الذي هو سلوك عن المبادئ إلى الثواني، وعن العلة إلى المعلول، إلاّ في بعض جمل مراتب الموجودات منها دون تفصيل. فإذن من حق هذا العلم في نفسه أن يكون مقدماً على العلوم كلها، إلاّ أنه من جهتنا يتأخر عن العلوم كلها، فقد تكلمنا على مرتبة هذا العلم من جملة العلوم. وأما أسم هذا العلم فهو أنه: "ما بعد الطبيعة". ويعني بالطبيعة لا القوة التي هي مبدأ حركة وسكون، بل جملة الشيء الحادث عن المادة الجسمانية وتلك القوة والأعراض. فقد قيل أنه قد يقال: الطبيعة، للجرم الطبيعي الذي له طبيعة. والجرم الطبيعي هو الجرم المحسوس بما له من الخواص والأعراض. ومعنى "ما بعد الطبيعة" بعدية بالقياس إلينا. فإن أول ما نشاهد الوجود، ونتعرف عن أحواله نشاهد هذا الوجود الطبيعي. وأما الذي يستحق أن يسمى به هذا العلم إذا اعتبر بذاته، فهو أن يقال له علم "ما قبل الطبيعة"، لأن الأمور المبحوث عنها في هذا العلم، هي بالذات والعموم، قبل الطبيعة. ولكنه لقائل أن يقول: إن الأمور الرياضية المحضة التي ينظر فيها في الحساب والهندسة، هي أيضاً "قبل الطبيعة"، وخصوصاً العدد فإنه لا تعلق لوجوده بالطبيعة البتة، لأنه قد يوجد لا في الطبيعة، فيجب أن يكون علم الحساب والهندسة علم "ما قبل الطبيعة". فالذي يجب أن يقال في هذا التشكيك هو أنه: أما الهندسة فما كان النظر فيه منها إنما هو في الخطوط والسطوح والمجسمات. فمعلوم أن موضوعه غير مفارق للطبيعة في القوام، فالأعراض اللازمة له أولى بذلك. وما كان موضوعه المقدار المطلق فيؤخذ فيه المقدار المطلق على أنه مستعد لأية نسبة اتفقت، وليس ذلك للمقدار بما هو مبدأ للطبيعيات وصورة؛ بل بما هو مقدار وعرض. وقد عرف في شرحنا للمنطقيات والطبيعيات الفرق بين المقدار الذي هو يعد الهيولي مطلقاً، وبين المقدار الذي هو كم،
الصفحة : 12
وأن أسم المقدار يقع عليهما بالإشتراك. وإذا كان ذلك فليس موضوع الهندسة بالحقيقة هوالمقدار المعلوم المقوم للجسم الطبيعي، بل المقدار المقول على الخط والسطح والجسم. وهذا هو المستعد للنسب المختلفة. وأما العدد فالشبهة فيه آكد، ويشبه في ظاهر النظر أن يكون علم العدد هو علم "ما بعد الطبيعة". إلاّ أن يكون علم "ما بعد الطبيعة" إنما يعنى به شيء آخر، وهو علم "ما هو مباين" من كل الوجوه للطبيعة، فيكون قد سُمّي هذا العلم بأشرف ما فيه. كما يُسمى هذا العلم بالعلم الإلهي أيضاً، لأن المعرفة بالله تعالى هي غاية هذا العلم. وكثيراً ما تسمى الأشياء من جهة المعنى الأشرف، والجزء الأشرف، والجزء الذي هو كالغاية. فيكون كأن هذا العلم هو العلم الذي كماله، وأشرف اجزاءه، ومقصوده الأول، هو معرفة ما يفارق الطبيعة من كل وجه. وحينئذ إذا كانت التسمية موضوعاً بإزاء هذا المعنى لا يكون لعلم العدد مشاركة له في معنى هذا الإسم، فهذا هذا. ولكن البيان المحقق لكون علم الحساب خارجاً عن علم "ما بعد الطبيعة" هو أنه سيظهر لك أن موضوعه ليس هو العدد كل كل وجه، فإن العدد قد يوجد في الأمور المفارقة، وقد يوجد في الأمور الطبيعية، وقد يعرض له وضع في الوهم مجرداً عن كل شيء وهو عارض له. وإن كان لا يمكن أن يكون العدد موجوداً، إلاّ عارضاً لشيء في الوجود.فما كان من العدد وجوده في الأمور المفارقة، امتنع أن يكون موضوعاً لأية نسبة اتفقت من الزيادة والنقصان، بل إنما يثبت على ما هو عليه فقط، بل إنما يجب أن يوضع بحيث يكون قابلاً لأي زيادة اتفقت، ولأي نسبة اتفقت إذا كان في هيولي الأجسام التي هي بالقوة كل نحو من المعدودات، أو كان في الوهم؛ وفي الحالين جميعاً هو غير مفارق للطبيعة، فإذن علم الحساب من حيث ينظر في العدد إنما ينظر فيه وقد حصل له الإعتبار الذي إنما يكون له عند كونه في الطبيعة، ويشبه أن يكون أول نظره فيه هو في الوهم، ويكون إنما هو في الوهم بهذه الصفة، لأنه وهم له مأخوذ من أحوال طبيعية لها أن تجتمع وتفترق وتتحدد وتنقسم. فالحساب ليس نظراً في ذات العدد، ولا نظراً في عوارض العدد من حيث هو عدد مطلقاً؛ بل هو في عوارضه من حيث هو يصير بحال تقبل ما أشير إليه، وهو حينئذ مادي أو وهمي إنساني يستند إلى المادة. وأما النظر في ذات العدد، وفيما يعرض له من حيث لا يتعلق بالمادة ولا يستند إليها، فهو لهذا العلم.
الفصل الرابع: (د)
الصفحة : 13
فصل في جملة ما يتكلم فيه في هذا العلم
فينبغي لنا في هذه الصناعة أن نعرف حال نسبة الشيء والموجودات إلى المقولات؛ وحال العدم؛ وحال الوجوب، أي الوجود الضروري وشرائطه؛ وحال الإمكان وحقيقته، وهو بعينه النظر في القوة والفعل؛ وأن ننظر في حال الذي بالذات والذي بالعرض؛ وفي الحق والباطل؛ وفي حال الجوهر، وكم أقسام هو، لأنه ليس يحتاج الموجود في ان يكون جوهراً موجوداً إلى أن يصير طبيعياً أو تعليمياً، فإن ههنا جواهر خارجة عنهما، فيجب أن نعرف حال الجوهر الذي هو كالهيولي، وأنه كيف هو، وهل هو مفارق أو غير مفارق، ومتفق النوع أو مختلف، وما نسبته إلى الصورة، أن الجوهر الصوري كيف هو، وهل هو أيضاً مفارق أو ليس بمفارق، وما حال المركب، وكيف حال كل واحد منهما عند الحدود، وكيف مناسبة ما بين الحدود والمحدودات. ولأن مقابل الجوهر بنوع ما هو العرض، فينبغي أن نتعرف في هذا العلم طبيعة العرض، وأصنافه، وكيفية الحدود التي تحد بها الأعراض، ونتعرف حال مقولة مقولة من الأعراض، وما أمكن فيه أن يظن أنه جوهر وليس بجوهر، فنبين عرضيته، ونعرف مراتب الجواهر كلها بعضها عن بعض في الوجود بحسب التقدم والتأخر، ونعرف كذلك حال الأعراض. ويليق بهذا الموضوع أن نتعرف حال الكلي والجزئي؛ والكل والجزء؛ وكيف وجود الطبائع الكلية، وهل لهاوجود في الأعيان الجزئية؛ وكيف وجودها في النفس، وهل لها وجود مفارق للأعيان والنفس. وهناك نتعرف حال الجنس والنوع، وما يجري مجراهما، ولأن الموجود لا يحتاج في كونه علة أو معلولاً إلى أن يكون طبيعياً أو تعليمياً أو غير ذلك. فبالحري أن نتبع ذلك الكلام في العلل، وأجناسها، وأحوالها، وأنها كيف ينبغي أن تكون الحال بينها وبين المعلولات، وفي تعريف الفرقان بين المبدأ الفاعلي، وبين غيره. وأن نتكلم في الفعل والإنفعال. وفي تعريف الفرقان بين الصورة والغاية، واثبات كل واحد منهما، وأنهما في كل طبقة يذهب إلى علةٍ أولى. ونبين الكلام في المبدأ والإبتداء، ثم الكلام في التقدم والتأخر والحدوث، وأصناف ذلك، وأنواعه، وخصوصية كل نوع منه، وما يكون متقدماً في الطبيعة ومتقدماً عند العقل، وتحقيق الأشياء المتقدمة عند العقل، ووجه مخاطبة من انكرها، فما كان فيه من هذه الأشياء رأي مشهور مخالف للحق نقضناه. فهذه وما يجري مجراها لواحق الوجود بما هو وجود، ولأن الواحد مساوق للوجود فيلزمنا أن ننظر
الصفحة : 14
أيضاً في الواحد، وإذا نظرنا في الواحد وجب أن ننظر في الكثير، ونعرف التقابل بينهما. وهناك يجب أن ننظر في العدد، وما نسبته إلى الموجودات، وما نسبة الكم المتصل، الذي يقابله بوجه ما، إلى الموجودات، ونعد الآراء الباطلة كلها فيه، ونعرف أنه ليس شيء من ذلك مفارقاً ولا مبدأ للموجودات، ونثبت العوارض التي تعرض للأعداد، والكميات المتصلة، مثل الأشكال وغيرها، ومن توابع الواحد: الشبيه، والمساوي، والموافق، والمجانس، والمشاكل، والمماثل، والهو هو. فيجب أن نتكلم في كل واحد من هذه ومقابلاتها، وأنها مناسبة للكثرة مثل الغير الشبيه، وغير المساوي، وغير المجانس، وغير المشاكل، والغير بالجملة، والخلاف، والتقابل، وأصنافها، والتضاد بالحقيقة، وماهيته. ثم بعد ذلك ننتقل إلى مبادئ الموجودات فنثبت المبدأ الأول وأنه واحد حق في غاية الجلالة، ونعرف أنه من كم وجه "واحد"، ومن كم وجه "حق"، وأنه كيف يعلم كل شيء، وكيف هو قادر على كل شيء، وما معنى أنه يعلم وأنه يقدر، وأنه جواد، وأنه سلام أي خير محض، معشوق لذاته، وهو اللذيذ الحق، وعنده الجمال الحق، ونَفسخ ما قيل وظُن فيه من الآراء المضادة للحق، ثم نبين كيف نسبته إلى الموجودات عنه، وما أول الأشياء التي توجد عنه. ثم كيف تترتب عنه الموجودات مبتدئة من الجواهر الملكية العقلية، ثم الجواهر الملكية النفسانية، ثم الجواهر الفلكية السماوية، ثم هذه العناصر، ثم المكونات عنها. ثم الإنسان وكيف تعود إليه هذه الأشياء، وكيف هو مبدأ لها فاعلي، وكيف هو مبدأ لها كمالي، وماذا تكون حال النفس الإنسانية إذا انقطعت العلاقة بينها وبين الطبيعة، وأي مرتبة تكون مرتبة وجودها. وندل فيما بين ذلك على جلالة قدر النبوة، ووجوب طاعتها، وأنها واجبة من عند الله، وعلى الأخلاق والأعمال التي تحتاج إليها النفوس الإنسانية مع الحكمة في أن يكون لها السعادة الأخروية. ونعرف أصناف السعادات. فإذا بلغنا هذا المبلغ ختمنا كتابنا هذا، والله المستعان به على ذلك.

الفصل الخامس: (ه)
الصفحة : 15
فصل في الدلالة على الموجود والشيء وأقسامها
الأوَل، بما يكون فيه تنبيه على الغرض
فنقول: إن الموجود، والشيء، والضروري، معانيها ترتسم في النفس ارتساماً أولياً، ليس ذلك الارتسام مما يُحتاج إلى أن يُجلب بإشياء أعرف منها. فأنه كما أن في باب التصديق مبادئ أولية، يقع التصديق لها لذاتها، ويكون التصديق بغيرها، بسببها، وإذا لم يخطر بالبال أو لم يفهم اللفظ الدال عليها، لم يمكن التوصل إلى معرفة ما يعرف بها، وإن لم يكن التعريف الذي يحاول أخطارها بالبال أو تفهيم ما يدل به عليها من الألفاظ محاولاً لإفادة علم ليس في الغريزة؛ بل منبها على تفهيم ما يريده القائل ويذهب إليه. وربما كان ذلك بأشياء هي في نفسها أخفى من المراد تعريفه، لكنها لعلة ما وعبارة ما صارت أعرف. كذلك في التصورات أشياء هي مبادئ للتصور، وهي متصورة لذواتها، وإذا أريد أن يدل عليها لم يكن ذلك بالحقيقة تعريفاً لمجهول؛ بل تنبيها وأخطاراً بالبال، بإسمٍ أو بعلامة، ربما كانت في نفسها أخفى منه، لكنها لعلة ما وحال ما تكون أظهر دلالة. فإذا استعملت تلك العلامة تنبهت النفس على إخطار ذلك المعنى بالبال، من حيث أنه هو المراد لا غيره، من غير أن تكون العلامة بالحقيقة معلمة إياه، ولو كان كل تصور يحتاج إلى أن يسبقه تصور قبله لذهب الأمر في ذلك إلى غير النهاية، أو لَدارَ. وأولى الأشياء بأن تكون متصورة لأنفسها الأشياء العامة للأمور كلها، كالموجود، والشيء الواحد وغيره. ولهذا ليس يمكن أن يبيّن شيء منها ببيان لا دور فيه البتة، أو بيان شيء أعرف منها. ولذلك من حاول أن يقوم فيها شيئاً وقع في إضطراب، كمن يقول: إن من الحقيقة الموجود أن يكون فاعلاً أو منفعلاً؛ وهذا إن كان ولا بد من أقسام الموجود، والموجود أعرف من الفاعل والمنفعل. وجمهور الناس يتصورون حقيقة الموجود ولا يعرفون البتة أه يجب ان يكون فاعلاً أو منفعلاً، وأنا إلى هذه الغاية لم يتضح لي ذلك إلاّ بقياس لا غير، فكيف يكون حال من يروم أن يعرف حال الشيء الظاهر بصفة له، تحتاج إلى بيان حتى يثبت وجودها له؟ وكذلك قول من قال: إن الشيء هو الذي يصح عنه الخبر، فإن "يصح" أخفى من "الشيء" و "الخبر" أخفى من "الشيء"، فكيف يكون هذا تعريفاً للشيء؟ وإنما تعرف الصحة ويعرف الخبر بعد أن يستعمل في بيان كل واحد منهما أنه "شيء" أو أنه "أمر" أو أنه "ما" أو أنه "الذي"، وجميع ذلك كالمرادفات لأسم الشيء، فكيف يصح أن يعرف الشيء تعريفاً حقيقياً بما لم يعرف إلاّ به؟ نعم ربما كان في ذلك أو أمثاله تنبيه ما. وأما بالحقيقة فإنك إذا قلت إن الشيء هو ما يصح عنه

الصفحة : 16
الخبر، تكون كأنك قلت: إن الشيء هو الشيء الذي يصح الخبر عنه، لأن معنى "ما" و"الذي" و"الشيء" معنى واحد، فتكون قد أخذت الشيء في حد الشيء. على أننا لا ننكر أن يقع بهذا أو ما يشبهه، مع فساد مأخذه، تنبيه بوجه ما على الشيء، ونقول: إن معنى الوجود ومعنى الشيء متصوران في الأنفس، وهما معنيان. فالموجود والمثبت والمحصل أسماء مترادفة على معنى واحد، ولا نشك في أن معناها قد حصل في نفس من يقرأ هذا الكتاب. والشيء وما يقوم مقامه قد يدل به على معنى آخر في اللغات كلها، فإن لكل أمر حقيقة هو بها ما هو، فالمثلث حقيقة أنه مثلث، وللبياض حقيقة أنه بياض، وذلك هو الذي ربما سميناه الوجود الخاص، ولم نرد به معنى الوجود الإثباتي. فإن لفظ الوجود يدل به أيضاً على معاني كثيرة، منها الحقيقة التي عليها الشيء، فكأنه ما عليه يكون الوجود الخاص للشيء. ونرجع فنقول: أنه من البين أن لكل شيء حقيقة خاصة هي ماهيته، ومعلوم أن حقيقة كل شيء الخاصة به غير الوجود الذي يرادف الإثبات، وذلك لأنك إذا قلت: حقيقة كذا موجودة إما في الأعيان، أو في الأنفس، أو مطلقاً يعمها جميعاً، كان لهذا معنى محصل مفهوم. ولوقلت: إن حقيقة كذا، حقيقة كذا، أو أن حقيقة كذا حقيقة، لكان حشواً من الكلام غير مفيد. ولو قلت: إن حقيقة كذا شيء، لكان أيضاً قولاً غير مفيد ما يجهل؛ واقل إفادة منه أن تقول: إن الحقيقة شيء، إلاّ أن يعنى بالشيء، الموجود، كأنك قلت: إن حقيقة كذا حقيقة موجودة. وأما إذا قلت: حقيقة أ شيء ما، و حقيقة ب شيء آخر، فإنما صح هذا وأفاد. لأنك تضمر في نفسك أنه شيء آخر مخصوص مخالف لذلك الشيء الآخر، كما لو قلنا: إن حقيقة أ وحقيقة ب حقيقة أخرى. ولولا هذا الإضمار وهذا الإقتران جميعاً لم يفد، فالشيءئ يراد به هذا المعنى. ولا يفارق لزوم معنى الوجود إياه البتة، بل معنى الوجود يلزمه دائماً، لأنه إما موجوداً في الأعيان، أو موجوداً في الوهم والعقل، فإن لم يكن كذا لم يكن شيئاً. وأن ما يقال: إن الشيء هو الذي يخبر عنه، حق؛ ثم الذي قال، مع هذا، إن الشيء قد يكون معدوماً على الإطلاق، أمر يجب أن ينظر فيه. فإن عنى بالمعدوم المعدوم في الأعيان، جاز أن يكون كذلك، فيجوز أن يكون الشيء ثابتاً في الذهن معدوماً في الأشياء الخارجة. وإن عنى غير ذلك كان باطلاً، ولم يكن عنه خبر البتة، ولا كان معلوماً إلاّ على أنه متصور في النفس فقط. فأما أن يكون متصوراً في النفس صورة تشير إلى شيء خارج فكلاّ.

الصفحة : 17
أما الخبر، فلأن الخبر يكون دائماً عن شيء متحقق في الذهن. والمعدوم المطلق لا يخبر عنه بالإيجاب، وإذا أخبر عنه بالسلب أيضاً فقد جعل له وجود بوجه ما في الذهن. لأن قولنا: "هو"، يتضمن إشارة، والإشارة إلى المعدوم - الذي لا صورة له بوجه من الوجوه في الذهن - محال. فكيف يوجب على المعدوم شيء؟ ومعنى قولنا: إن المعدوم "كذا"، معناه أن وصف "كذا" حاصل للمعدوم، ولافرق بين الحاصل والموجود. فنكون كأنا قلنا: إن هذا الوصف موجود للمعدوم. بل نقول: إنه لا يخلو أن ما يوصف به المعدوم ويحمل عليه إما أن يكون موجوداً وحاصلاً للمعدوم أو لا يكون موجوداً حاصلاً له؛ فإن كان موجوداً وحاصلاً للمعدوم، فلا يخلو إما أن يكون في نفسه موجوداً أو معدوماً، فإن كان موجوداً فيكون للمعدوم صفة موجودة، وإذا كانت الصفة موجودة، فالموصوف بها موجود لا محالة، فالمعدوم موجود، وهذا محال؛ وإن كانت الصفة معدومة، فكيف يكون المعدوم في نفسه موجوداً لشيء؟ فإم ما لا يكون موجوداً في نفسه، يستحيل ان يكون موجوداً للشيء. نعم قد يكون الشيء موجوداً في نفسه ولا يكون موجوداً لشيء آخر، فأما إن لم تكن الصفة موجودة للمعدوم فهي نفي الصفة عن المعدوم، فإنه إن لم يكن هذا هو النفي للصفة عن المعدوم، فإذا نفينا الصفة عن المعدوم، كان مقابل هذا، فكان وجود الصفة له؛ وهذا كله باطل. وإنما نقول: إن لنا علماً بالمعدوم، فلأن المعنى إذا تحصل في النفس فقط ولم يشر فيه إلى خارج، كان المعلوم نفس ما في النفس فقط، والتصديق الواقع بين المتصور من جزئيه هو أنه جائز في طباع هذا المعلوم وقوع نسبة له معقولة إلى خارج، وأما في هذا الوقت فلا نسبة له، فلا معلوم غيره. وعند القوم الذين يرون هذا الرأي، أن في جملة ما يخبر عنه ويعلم أموراً لا شيئية لها في العدم، ومن شاء أن يقف على ذلك فليرجع غلى ما هذوا به من أقاويلهم التي لا تستحق فضل الإشتغال بها. وإنما وقع اولئك فيما وقعوا فيه بسبب جهلهم بأن الإخبار إنما يكون عن معان لها وجود في النفس، وإن كانت معدومة في الأعيان، ويكون معنى الإخبار عنها ان لها نسبة ما إلى الأعيان. مثلاً إن قلت: إن القيامة "تكون" فهمت القيامة وفَهمت تكون، وحملت تكون التي في النفس، على القيامة التي في النفس، بأن هذا المعنى إنما يصح في معنى آخر معقول أيضاً، وهو معقول في وقت مستقبل، أن يوصف بمعنى ثالث معقول، وهو معقول الوجود. وعلى هذا القياس الأمر في الماضي. فبين أن المخبر عنه لا بد من أن يكون موجوداً وجوداً ما في النفس. والإخبار في الحقيقة هو عن الموجود في النفس، وبالعرض عن
الصفحة : 18
الموجود في الخارج. وقد فهمت الآن أن الشيء بماذا يخالف المفهوم للموجود والحاصل، وأنهما مع ذلك متلازمان. وعلى أنه قد بلغني أن قوماً يقولون: أن الحاصل يكون حاصلاً، وليس بموجود، وقد تكون صفة الشيء ليس شيئاً لا موجوداً ولا معدوماً، وأن "الذي" و"ما" يدلان على غير ما يدل عليه الشيء. فهؤلاء ليسوا من جملة المميّزين. وإذا أخذا بالتمييز بين هذه الألفاظ من حيث مفهوماتها إنكشفوا. فنقول الآن: إنه وإن لم يكن الموجود، كما علمت، جنساً، ولا مقولاً بالتساوي على ما تحته، فإنه معنى متفق فيه على التقديم والتأخير. وأول ما يكون، يكون للماهية التي هي الجوهر ثم يكون لما بعده. وإذ هو معنى واحد على النحو الذي أومأنا إليه فتلحقه عوارض تخصه، كما قد بيّنا من قبل. فلذلك يكون له علم واحد يتكفل به. كما أن لجميع ما هو صحي علماً واحداً. وقد يعسر علينا أن نعرف حال الواجب والممكن والممتنع بالتعريف المحقق أيضاً، بل بوجه العلامة. وجميع ما قيل في تعريف هذه مما بلغك عن الأولين قد يكاد يقتضي دوراً. وذلك لأنهم، على ما مر لك في فنون المنطق، إذا أرادوا أن يحدوا الممكن، أخذوا في حده إما الضروري وإما المحال ولا وجه غير ذلك. وإذا أرادوا أن يحدوا الضروري، أخذوا في حده إما الممكن وإما المحال. وإذا أرادوا أن يحدوا المحال أخذوا في حده إما الضروري وإما الممكن. مثلاً إذا حدوا الممكن قالوا مرة، إنه غير ضروري أو إنه المعدوم، في الحال الذي ليس وجوده، في أي وقت فرض من المستقبل، بمجال. ثم إذا احتاجوا إلى أن يحدوا الضروري قالوا: إما أنه الذي لا يمكن أن يفرض معدوماً، أو إنه الذي إذا فرض بخلاف ما هو عليه كان محالاً. فقد أخذوا الممكن تارة في حده، والمحال أخرى. وأما الممكن فقد كانوا أخذوا، قبل، في حده إما الضروري وإما المحال. ثم المحال، إذا ارادوا أن يحدوه، أخذوا في حده إما الضروري بأن يقولوا: إن المحال هو ضروري العدم؛ وإما الممكن بأن يقولوا: إنه الذي لا يمكن أن يوجد؛ أو لفظاً آخر يذهب مذهب هذين. وكذلك ما يقال من أن الممتنع هو الذي لا يمكن أن يكون، أو هو الذي لا يجب أن يكون. والواجب هو الذي هو ممتنع ومحال أن لا يكون، أو ليس بممكن أن لا يكون. والممكن هوالذي ليس يمتنع أن يكون أو لا يكون، أو الذي ليس بواجب أن يكون أو لا يكون. وهذا كله كما تراه دور ظاهر. وأما الكشف الحال في ذلك فقد مرّ لك في أنولوطيقا. على أن أولى هذه الثلاثة في ان يتصور أولاً، هو الواجب. وذلك لأن الواجب يدل على تأكد الوجود،
الصفحة : 19
والوجود أعرف من العدم، لأن الوجود يعرف بذاته، والعدم يعرف، بوجه ما من الوجوه، بالوجود. ومن تفهمنا هذه الأشياء يتضح لك بطلان قول من يقول: إن المعدوم يعاد لأنه أول شيء مخبر عنه بالوجود. وذلك أن المعدوم إذا أعيد يجب أن يكون بينه وبين ما هو مثله، لو وجد بدله، فرق. فإن كان مثله إنما ليس هو لأنه ليس الذي كان عدم، وفي حال العدم كان هذا غير ذلك، فقد صار المعدوم موجوداً على النحو الذي أومأنا إليه فيما سلف آنفاً. وعلى أن المعدوم إذا أعيد احتيج أن تعاد جميع الخواص التي كان بها هو ما هو. ومن خواصه وقته، وإذا أعيد وقته كان المعدوم غير معاد، لأن المعاد هو الذي يوجد في وقت ثان. فإن كان المعدوم تجوز إعادته وإعادة جملة المعلومات التي كانت معه، والوقت إما شيء له حقيقة وجود قد عدم، أو موافقة موجود لعرض من الأعراض، على ما عرف من مذاهبهم، جاز أن يعود الوقت والأحوال، فلا يكون وقت ووقت، فلا يكون يعود. على أن العقل يدفع هذا دفعاً لا يحتاج فيه إلى بيان، وكل ما يقال فيه فهو خروج عن طريق التعليم.

الفصل السادس: (و)
الصفحة : 20
فصل في ابتداء القول في الواجب الوجود والممكن الوجود، وأن الواجب الوجود لا علة له، وأن الممكن الوجود معلول، وأن الواجب الوجود غير مكافئ لغيره في الوجود، ولا متعلق بغيره فيه
ونعود إلى ما كنا فيه فنقول: إن لكل واحد من الواجب الوجود، والممكن الوجود، خواص. فنقول: إن الأمور التي تدخل في الوجود تحتمل في العقل الإنقسام إلى قسمين، فيكون منها ما إذا اعتبر بذاته لم يجب وجوده، وظاهر أنه لا يمتنع أيضاً وجوده، وإلاّ لم يدخل في الوجود، وهذا الشيء هو في حيّز الإمكان، ويكون منها ما إذا اعتبر بذاته وجب وجوده. فنقول: إن الواجب الوجود بذاته لا علة له، وإن الممكن الوجود بذاته له علة، وإن الواجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته، وإن الواجب الوجود لا يمكن أن يكون وجوده مكافئاً لوجود آخر، فيكمون كل واحد منهما مساوياً للآخر في وجوب الوجود ويتلازمان. وأن الواجب الوجود لا يجوز ان يجتمع وجوده عن كثرة البتة. وأن الواجب الوجود لا يجوز أن تكون الحقيقة التي له مشتركاً فيها بوجه من الوجوه، حتى يلزم تصحيحنا ذلك أن يكون واجب الوجود غير مضاف، ولا متغير، ولا متكثر، ولا مشارك في وجوده الذي يخصه. أما الواجب الوجود لا علة له، فظاهر. لأنه إن كان لواجب الوجود علة في وجوده، كان وجوده بها. وكل ما وجوده بشيء، فإذا اعتبر بذاته دون غيره لم يجب له وجود، وكل ما إذا اعتبر بذاته دون غيره، ولم يجب له وجود، فليس واجب الوجود بذاته. فبين أنه إن كان لواجب الوجود بذاته علة لم يكن واجب الوجود بذاته، فقد ظهر أن الواجب الوجود لا علة له. وظهر من ذلك أنه لا يجوز أن يكون شيء واجب الوجود بذاته، وواجب الوجود بغيره، لأنه إن كان يجب وجوده بغيره، فلا يجوز أن يوجد دون غيره، وكلما لا يجوز أن يوجد دون غيره، فيستحيل وجوده واجباً بذاته. ولو وجب بذاته، لحصل. ولا تأثير لإيجاب الغير في وجوده الذي يؤثر غيره في وجوده فلا يكون واجباً وجوده في ذاته. وأيضاً أن كل ما هو ممكن الوجود باعتبار ذاته، فوجوده وعدمه كلاهما بعلة، لأنه غذا وجد فقد حصل له الوجود متميزاً من العدم، وإذا عدم حصل له العدم متميزاً من الوجود. فلا يخلو إما أن يكون كل واحد من الأمرين يحصل له عن غيره أو لا عن غيره، فإن كان عن غيره فالغير هو العلة؛ وإن كان لا يحصل عن غيره، ومن البين أن كل ما لم يوجد ثم وجد فقد تخصص بأمر جائز غيره. وكذلك في العدم، وذلك لأن هذا التخصيص إما تكفي فيه ماهية الأمر أو لا تكفي فيه ماهيته، فإن كانت
الصفحة : 21
ماهيته تكفي لأي الأمرين كان، حتى يكون حاصلاً، فيكون ذلك الأمر واجب الماهية لذاته، وقد فرض غير واجب، هذا خلف. وإن كان لا يكفي فيه وجود ماهيته، بل أمر يضاف إليه وجود ذاته، فيكون وجوده لوجود شيء آخر غير ذاته لا بد منه فهو علته، فله علة. وبالجملة فإنما يصير أحد الأمرين واجباً له، لا لذاته، بل لعلة. أما المعنى الوجودي فبعلّة، هي علة وجودية. وأما المعنى العدمي فبعلة، هي عدم العلة للمعنى الوجودي، وعلى ما علمت. فنقول: إنه يجب أن يصير واجباً بالعلة، وبالقياس إليها. فإنه إن لم يكن واجباً، كان عند وجود العلة وبالقياس إليها ممكناً أيضاً، فكان يجوز أن يوجد وأن لا يوجد غير متخصص باحد الأمرين، وهذا محتاج من رأس إلى وجود شيء ثالث يتعين له به الوجود من العدم، أو العدم عن الوجود عند وجود العلة، فيكون ذلك علة أخرى، ويتمادى الكلام إلى غير النهاية. وإذا تمادى إلى غير النهاية لم يكن، مع ذلك، قد تخصص له وجوده، وهذا محال. لا لأنه ذاهب إلى غير النهاية في العلل فقط، فإن هذا في هذا الموضع بعد مشكوك في إحالته، بل لأنه لم يوجد بعد مل يتخصص به وقد فرض موجوداً. فقد صح أن كل ما هو ممكن الوجود لا يوجد ما لم يجب بالقياس إلى علته. ونقول: ولا يجوز أن يكون واجب الوجود مكافئاً لواجب وجود آخر، حتى يكون هذا موجوداً مع ذلك، وذلك موجوداً مع هذا، وليس أحدهما علة للاخر، بل هما متكافئان في أمر لزوم الوجود. لأنه لا يخلو إذا اعتبر ذات أحدهما بذاته دون الآخر، إما ان يكون واجباً بذاته أو لا يكون واجباً بذاته، فإن كان واجباً بذاته فلا يخلو إما أن يكون له وجوب أيضاً باعتباره مع الثاني، فيكون الشيء واجب الوجوب بذاته، وواجب الوجود لأجل غيره، وهذا محال، كما قد مضى. وإما أن لا يكون له وجوب بالآخر، فلا يجب أن يتبع وجوده وجود الآخر، ويلزمه أن لا يكون لوجوده علاقة بالآخر، حتى يكون إنما يوجد إذا وجد الآخر هذا. وأما إن لم يكن واجباً بذاته، فيجب أن يكون باعتبار ذاته ممكن الوجود، وباعتبار الآخر واجب الوجود. فلا يخلو حينئذ إما أن يكون الآخر كذلك أو لا يكون، فإن كان الآخر كذلك فلا يخلو حينئذ إما أن يكون وجوب الوجود لهذا من ذلك، وذلك في حد إمكان الوجود، أو في حد وجوب الوجود. فإن كان وجوب الوجود لهذا من ذلك، وذلك هو في حد وجوب الوجود، وليس من نفسه، أو من ثالث سابق، كما قلناه في وجه سلف، بل من الذي يكون منه، كان وجوب وجود شرطاً فيه وجوب وجود ما يحصل بعد وجوب وجوده، بعدية بالذات فلا يحصل له وجوب وجود البتة. وإن كان وجوب الوجود لهذا من ذلك، وذلك في حد الإمكان، فيكون وجوب وجود هذا بالذات ذلك هو في حد الإمكان،
الصفحة : 22
ويكون ذات ذلك في حد الإمكان مفيداً لهذا وجوب الوجود، وليس له حد الإمكان مستفاداً من هذا، بل الوجوب. فتكون العلة لهذا إمكان وجود ذلك، وإمكان وجود ذلك ليس علته هذا، فيكونان غير متكافئين، أعني ما هو علته بالذات ومعلول بالذات. ثم يعرض شيء آخر وهو، إنه إذا كان إمكان وجود ذلك هو علة إيجاب وجود هذا، لم يتعلق وجود هذا بوجوبه؛ بل بإمكانه. فوجب أن يجوز وجوبه مع عدمه وقد فرضا متكافئين، هذا خلف، فإذن ليس يمكن أن يكونا متكافئي الوجود، في حال ما، لا يتعلقان بعلة خارجة، بل يجب أن يكون أحدهما هو الأول بالذات، أو يكون هناك سبب خارج آخر يوجبهما جميعاًبإيجاب العلاقة التي بينهما أو يوجب العلاقة بإيجابهما. والمضافان ليس أحدهما واجباً بالآخر، بل مع الآخر، والموجب لهما العلة التي جمعتهما، وأيضاً المادتان والموضوعان أو الموصوفان بهما. وليس يكفي وجود المادتين أو الموضوعين لهما وحدهما،بل وجود ثالث يجمع بينهما. وذلك لأنه لا يخلو إما أن يكون وجود كل واحد من الأمرين وحقيقته هو أن يكون مع الآخر، فوجوده بذاته يكون غير واجب، فيصير ممكناً، فيصير معلولاً، ويكون كما قلنا ليس علته مكافئة في الوجود، فتكون إذن علته أمر آخر، فلا يكون هو والآخر علة للعلاقة التي بينهما، بل ذلك الآخر. وأما أن لا يكون، فتكون المعية طارئة على وجوده الخاص لاحقة له. وأيضاً فإن الوجود الذي يخصه لا يكون عن مكافئيه من حيث هو مكافيه؛ بل عن علة متقدمة إن كان معلولاً. فحينئذ إما أن يكون وجوده ذلك عن صاحبه، لا من حيث يكافيه، بل من حيث وجود صاحبه الذي يخصه، فلا يكونان متكافئين، بل علة ومعلولاً. ويكون صاحبه أيضاً علة للعلاقة الوهمية بينهما كالأب والابن. وإما أن يكونا متكافئين من جملة ما يكون الأمران ليس أحدهما علة للآخر، وتكون العلاقة لازمة لوجودهما، فتكون العلة الأولى للعلاقة هي أمر خارج موجد لذاتيهما على ما علمت، والعلاقة عرضية، فيكون لا تكافؤ هناك إلاّ بالعرض المباين أو اللازم. وهذا غير ما نحن فيه، ويكون للذي بالعرض علة لا محالة، فيكونان من حيث التكافؤ معلولين.
الفصل السابع: (ز)
الصفحة : 23
فصل في أن واجب الوجود واحد
ونقول ايضاً: إن واجب الوجود يجب أن يكون ذاتاً واحدة، وإلاّ فليكن كثرة ويكون كل واحد منها واجب الوجود، فلا يخلو إما أن يكون كل واحد منها في المعنى الذي هو حقيقته، لا يخالف الآخر البتة أو يخالفه. فإن كان لا يخالف الآخر في المعنى الذي لذاته بالذات، ويخالفه بأنه ليس هو، وهذا خلاف لا محالة، فيخالفه في غير المعنى. وذلك لأن المعنى الذي هو فيهما غير مختلف، وقد قارنه شيء به صار هذا أو في هذا، أو قارنه نفسه أنه هذا أو في هذا، ولم يقارنه هذا المقارن في الآخر، بل ما به صار ذاك ذاك، أو نفس أن ذاك ذاك، وهذا تخصيص ما قارن ذلك المعنى، وبينهما به مباينة. فإذن كل واحد منها يباين الآخر به، وليس يخالفه في نفس المعنى، فيخالفه في غير المعنى. والأشياء التي هي غير المعنى وتقارن المعنى هي الأعراض واللواحق الغير الذاتية. وهذه اللواحق فإما أن تعرض لوجود الشيء بما هو ذلك الوجود فيجب أن يتفق الكل فيه وقد فرض أنها مختلفة فيه، وهذا خلف. وإما أن تعرض له عن أسباب خارجة لا عن نفس ماهيته، فيكون لولا تلك العلة لم يختلف، فيكون لولا تلك العلة لكانت الذوات واحدة أو لم تكن، فيكون أولاً تلك العلة ليس هذا بانفراده واجب الوجود، وذلك بانفراد، واجب الوجود لا من حيث الوجود، بل من حيث الأعراض، فيكون وجوب وجود كل واحد منهما الخاص به، المنفرد له، مستفاداً من غيره. وقد قيل إن كل ما هو واجب الوجود بغيره فليس واجب الوجود بذاته، بل هو في حد ذاته ممكن الوجود، فتكون كل واحدة من هذه، مع أنها واجبة الوجود بذاتها، ممكنة الوجود في حد ذاتها وهذا محال. ولنفرض الآن أنه يخالفه في معنى أصلي، بعد ما يوافقه في المعنى، فلا يخلو ذلك المعنى إما أن يكون شرطاً في وجوب الوجود، أو لا يكون. فإن كان شرطاً في وجوب الوجود، فظاهر أنه يجب أن يتفق فيه كل ما هو واجب الوجود، وإن لم يكن شرطاً في وجوب الوجود، فوجوب الوجود متقرر دونه وجوب وجود، وهو داخل عليه، عارض، مضاف إليه، بعد ما تم ذلك وجوب وجود، وقد منعنا هذا وبيّنا فساده. فإذن لا يجوز أن يخالفه في المعنى. بل يجب أن نزيد لهذا بياناً من وجه آخر وهو: أن انقسام معنى وجوب الوجود في الكثرة لا يخلو من وجهين: إما أن يكون على سبيل انقسامه بالفصول وإما على سبيل انقسامه بالعوارض. ثم من المعلوم أن الفصول لا تدخل في حد ما يقام مقام الجنس. فهي لا تفيد الجنس حقيقته، وإنما تفيده القوام بالفعل، وذلك كالناطق، فإن الناطق لا يفيد الحيوان معنى الحيوانية، بل يفيده القوام بالفعل ذاتاً موجودة خاصة.
الصفحة : 24
فيجب ايضاً أن تكون فصول وجوب الوجود، إن صحت، بحيث لا تفيد وجوب الوجود حقيقة وجوب الوجود، بل يفيده الوجود بالفعل. وهذا محال من وجهين: أحدهما، أنه ليس حقيقة وجوب الوجود إلاّ نفس تأكد الوجود، لا كحقيقة الحيوانية التي هي معنى غير تأكد الوجود، والوجود لازم لها، أو داخل عليها، كما علمت. فإذن إفادة الوجود لوجوب الوجود، هي إفادة شرط من حقيقته ضرورة، وقد منع جواز هذا ما بين الجنس والفصل. والوجه الثاني، أنه يلزم أن تكون حقيقة وجوب الوجود متعلقة في أن تحصل بالفعل الموجب له، فيكون المعنى الذي به يكون الشيء واجب الوجود يجب وجوده بغيره، وإنما كلامنا في وجوب الوجود بالذات، فيكون الشيء الواجب الوجود بذاته واجب الوجود بغيره، وقد أبطلنا هذا. فقد ظهر أن انقسام وجوب الوجود إلى تلك الأمور، لا يكون انقسام المعنى الجنسي إلى فصول. فتبيّن أن المعنى الذي يقتضي وجوب الوجود لا يجوز أن يكون معنى جنسياً ينقسم بفصول وأعراض، فبقي أن يكون معنى نوعياً. فنقول: ولا يجوز أن تكون نوعيته محمولة على كثيرين، لأن أشخاص النوع الواحد، كما بينا، إذا لم تختلف في المعنى الذاتي، وجب أن تكون إنما تختلف بالعوارض، وقد منعنا إمكان هذا في وجوب الوجود، وقد يمكن أن نبين هذا بنوع من الإختصار، ويكون الغرض راجعاً إلى ما أردناه. فنقول: إن وجوب الوجود إذا كان صفة للشيء وموجوداً له، فإما أن يكون واجباً في هذه الصفة، أي في وجوب الوجود، أن تكون عين تلك الصفة موجودة لهذا الموصوف، فيمتنع الواحد منها أن يوجد وجوداً لا يكون صفة له، فيمتنع أن يوجد لغيره، فيجب أن يوجد له وحده؛ وإما أن يكون وجودها له ممكناً غير واجب. فيجوز أن يكون هذا الشيء غير واجب الوجود بذاته وهو واجب الوجود بذاته، هذا خلف. فوجوب الوجود لا يكون إلاّ لواحد فقط. فإن قال قائل: إن وجوده لهذا لا يمنع وجوده صفة للآخر فكونه صفة للآخر لا يبطل وجوب كونه صفة له. فنقول: كلامنا في تعيين وجوب الوجود صفة له، من حيث هو له، من حيث لا يلتفت فيه إلى الآخر، فذلك ليس صفة للآخر بعينه؛ بل مثلها الواجب فيها ما يجب في تلك بعينها. وبعبارة أخرى نقول: إن كون الواحد منها واجب الوجود، وكونه هو بعينه، إما أن يكون واحداً، فيكون كل ما هو واجب الوجود فهو بعينه وليس غيره. وإن كان كونه واجب الوجود، غير كونه هو بعينه، فمقارنة واجب الوجود لأنه هو بعينه، إما أن يكون أمراً لذاته، أو لعلةٍ وسبب موجب غيره. فإن كان لذاته،
الصفحة : 25
ولأنه واجب الوجود، فيكون كل ما هو واجب الوجود هذا بعينه. وإن كان لعلة وسبب موجب غيره، فلكونه هذا بعينه سبب، فلخصوصية وجوده المنفرد سبب، فهو معلول. فإذن واجب الوجود واحد بالكلية ليس كأنواع تحت جنس، وواحد بالعدد ليس كأشخاص تحت نوع، بل معنى شرح أسمه له فقط، ووجوه غير مشترك فيه. وسنزيد هذا إيضاحاً في موضع آخر. فهذه الخواص التي يختص بها واجب الوجود. وأما الممكن الوجود، فقد تبين من ذلك خاصيته وهو أنه يحتاج ضرورة إلى شيء آخر يجعله بالفعل موجوداً. وكل ما هو ممكن الوجود فهو دائماً، باعتبار ذاته، ممكن الوجود، لكنه ربما عرض أن يجب وجوده بغيره، وذلك إما أن يعرض له دائماً، وإما أن يكون وجوب وجوده عن غيره ليس دائماً، بل في وقت دون وقت. فهذا يجب أن يكون له مادة تتقدم وجوده بالزمان، كما سنوضحه. والذي يجب وجوده بغيره دائماً، فهو أيضاً غير بسيط الحقيقة، لأن الذي له باعتبار ذاته، غير الذي له من غيره، وهو حاصل الهوية منهما جميعاً في الوجود، فلذلك لا شيء غير واجب الوجود تعرّى عن ملا بسة ما بالقوة والإمكان باعتبار نفسه، وهو الفرد، وغيره زوج تركيبي.
الفصل الثامن: (ح)

الصفحة : 26
فصل في بيان الحق والصدق والذب عن أول الأقاويل، في المقدمات الحقة أما الحق فيفهم منه الوجود في العيان مطلقاً، ويفهم منه الوجود الدائم ويفهم منه حال القول أو العقد الذي يدل على حال الشيء في الخارج إذا كان مطابقاً له، فنقول: هذا قول حق، وهذا إعتقاد حق. فيكون الواجب الوجود هو الحق بذاته دائماً، والممكن الوجود حق بغيره، باطل في نفسه. فكل ما سوى الواجب الوجود الواحد باطل في نفسه. وأما الحق من قبل المطابقة فهو كالصادق، إلاّ أنه صادق فيما أحسب باعتبار نسبته إلى الأمر، وحق باعتبار نسبة الأمر إليه. وأحق الأقاويل أن يكون حقاً ما كان قد صدقه دائماً، وأحق ذلك ما كان صدقه أولياً ليس لعلة. وأول كل الأقاويل الصادقة الذي يتنهي إليه كل شيء في التحليل، حتى أنه يكون مقبولاً بالقوة أو بالفعل في كل شيء يُبين أو يتبين به، مكا بيناه في كتاب البرهان، هو أنه: لا واسطة بين الإيجاب والسلب. وهذه الخاصة ليست من عوارض شيء إلاّ من عوارض الموجود بما هو موجود، لعمومه في كل موجود. والسوفسطائي إذا أنكر هذا، فليس ينكره إلاّ بلسانه معانداً. أو يكون قد عرض له شبهة في أشياء فسد عليه عنده فيها طرفا النقيض لغلط جرى عليه مثلاً، لأنه لا يكون حصل له حال التناقض وشرائطه. ثم إن تبكيت السوفسطائي، وتنبيه المتحير أبداً، إنما هو في كل حال على الفيلسوف، ويكون لا محالة بضرب من المحاورة. ولا شك أن تلك المحاورة تكون ضرباً من القياس الذي يلزم مقتضاه، إلاّ أنه لا يكون في نفسه قياساً يلزم مقتضاه، ولكن يكون قياساً بالقياس. وذلك لأن القياس الذي يلزم مقتضاه على وجهين: قياس في نفسه، وهو الذي تكون مقدماته صادقة في أنفسها، وأعرف عند العقلاء من النتيجة، ويكون تأليفه تاليفاً منتجاً، وقياس كذلك بالقياس، وهو أن تكون حال المقدمات كذلك عند المحاور حتى يسلم الشيء وإن لم يكن صدقاً، وإن كان صدقاً لم يكن أعرف من النتيجة التي يسلمها، فيؤلف عليه بتأليف صخيح مطلق أو عنده. وبالجملة فقد كان القياس ما إذا سلمت مقدماته لزم منه شيء، فيكون ذلك قياساً من حيث كذا. ولكنه ليس يلزم أن يكون كل قياس قياساً يلزم مقتضاه، لأن مقتضاه يلزم إذا سلم، فإذا لم يسلم كان قياساً. لأنه قد أورد فيه ما إذا وضع وسلم لزمه، ولكن لما لم يسلم بعد لم يلزم مقتضاه، فيكون القياس قياساً، أعم من كونه قياساً يلزم مقتضاه.

الصفحة : 27
وكونه قياساً يلزم مقتضاه، هو أيضاً على قسمين، على ما علمت، فالقياس الذي يلزم مقتضاه بحسب الأمر في نفسه، هو الذي مقدماته مسلمة في أنفسها، وأقدم من النتيجة. وأما الذي هو بالقياس، فالذي قد سلم المخاطب مقدماته، فتلزمه النتيجة. ومن العجائب أن السوفسطائي الذي غرضه المماراة يضظر إلى أحد الأمرين: إما إلى السكوت والإعراض، وإما إلى الإعتراف لا محالة بأشياء، والإعتراف بأنها تنتج عليه. وأما المتحير فعلاجه حل شبهة، وذلك لأن المتحير لا محالة إنما وقع فيما وقع فيه إما لما يراه من تخالف الأفاضل الأكثرين، ويشاهده من كون رأي كل واحد منهم مقابلاً لرأي الآخر الذي يجده قرنا له، لايقصر عنه، فلا يجب عنده أن يكون أحد القولين أولى بالتصديق من الآخر؛ وإما لأنه سمع من المذكورين المشهورين المشهود لهم بالفضيلة أقاويل لم يقلها عقله بالبديهة، كقول من قال: إن الشيء لا يمكنك أن تراه مرتين، بل ولا مرة واحدة، وإن لا وجود لشيء في نفسه، بل بالإضافة. فإذا كان قائل مثل هذا القول مشهوراً بالحكمة لم يكن بعيداً أن يتحير الشادي لقوله. وإما لأنه قد اجتمع عنده قياسات متقابلة النتائج ليس يقدر على أن يختار واحد منها ويزيف الآخر. فالفيلسوف يتدارك ما عرض لأمثال هؤلاء من وجهين: أحدهما حل ما وقع فيه من الشك؛ والثاني التنبيه التام على أنه لا يمكن أن يكون بين النقيضين واسطة. أما حل ما وقع فيه فمن ذلك أن يعترفه أن الناس ناس لا ملائكة. ومع ذلك فليس يجب أن يكونوا متكافئين في الإصابة، ولا يجب إذا كان واحد أكثر صواباً في شيء من آخر، أن لا يكون الآخر أكثر صواباً منه في شيء آخر. وأن يعرف أن أكثر المتفلسفين يتعلم المنطق وليس يستعمله، بل يعود آخر الأمر فيه إلى القريحة فيركبها ركوب الراكض من غير كف عنان أوجذب خطام. وأن من الفضلاء من يرمز أيضاً برموز، ويقول ألفاظاً ظاهرة مستشنعة أو خطأ وله فيها غرض خفي، بل أكثر الحكماء، بل الأنبياء الذين لا يؤتون من جهة غلطاً أو سهواً هذه وتيرتهم. فهذا يزيل شغل قلبه من جهة ما استنكر من العلماء. ثم يعرفه فيقول: إنك إذا تكلمت فلا يخلو إما أن تقصد بلفظك نحو شيء من الأشياء بعينه، أو لا تقصد، فإن قال إذا تكلمت لم أفهم شيئاً، فقد خرج هذا من جملة المسترشدين المتحيرين، وناقض الحال في نفسه، وليس الكلام معه هذا الضرب من الكلام. وإن قال: إذا تكلمت فهمت باللفظ كل شيء فقد خرج عن الإسترشاد. فإن قال: إذا تكلمت فهمت به شيئاً بعينه، أو أشياء كثيرة محدودة. فعلى كل حال فقد جعل للفظ دلالة على أشياء بعينها لا يدخل في تلك
الصفحة : 28
الدلالة غيرها. فإن كانت تلك الكثرة تتفق في معنى واحد فقد دل أيضاً على معنى واحد، وإن لم يكن كذلك فالإسم مشترك، ويمكن لا محالة أن يفرد لكل واحد من تلك الجملة إسماً؛ فهذا يسلمه من قام مقام المسترشدين المتحيرين. وإذا كان الإسن دليلاً على شيء واحد كالإنسان مثلاً فالا إنسان، أعني ما هو مباين للإنسان لا يدل عليه ذلك الإسم بوجه من الوجوه. فالذي يدل عليه إسم الإنسان لا يكون الذي يدل عليه إسم اللا إنسان، فإن كان الإنسان يدل على اللا إنسان، فيكون لا محالة الإنسان، والحجر، والزورق، والفيل شيئاً واحداً؛ بل يدل على الأبيض، والأسود، والثقيل، والخفيف، وجميع ما هو خارج مما دل عليه إسم الإنسان. وكذلك حال المفهوم من الألفاظ هذه، فيلزم من هذا أن يكون كل شيء وأن يكون ولا شيء من الأشياء نفسه، وأن لايكون للكلام مفهوم. ثم لا يخلو إما أن يكون هذا حكم كل لفظ، وحكم كل مدلول عليه باللفظ، أو يكون بعض هذه الأشياء بهذه الصفة، وبعضها بخلافها. فإن كان هذا في كل شيء فقد عرض أن لا خطاب ولا كلام، بل لا شبهة ولا حجة أيضاً. وإن كان في بعض الأشياء قد تتميز الموجبة عن السالبة، وفي بعضها لا تتميز، فحيث تتميز يكون لا محالة ما يدل عليه الإنسان غير ما يدل عليه باللا إنسان؛ وحيث لا يتميز كالأبيض واللا أبيض يكون مدلولهما واحد، فيكون كل شيء هو لا أبيض فهو أبيض، وكل شيء هو أبيض فهو لا أبيض، فالإنسان إذا كان له مفهوم متميز فإن كان الأبيض فهو أيضاً لا أبيض الذي هو والأبيض واحد، واللا إنسان كذلك؛ فيعرض مرة أخرى أن يكون الإنسان واللا إنسان غير متميزين. فهذا ومثاله قد يزيح علة المتحير المسترشد في أن يعرف أن الإيجاب والسلب لا يجتمعان، ولا يصدقان معاً. وكذلك أيضاً قد تبين له أنهما لا يرتفعان ولا يكذبان معاً، فإنه إذا كذبا معاً في شيء، كان ذلك الشيء ليس بإنسان مثلاً، وليس أيضاً بلا إنسان. فيكون قد اجتمع الشيء الذي هو اللا إنسان وسالبه الذي هو لا لا إنسان، وقد نبه على بطلانه. فهذه الأشياء وما يشبهها مما لا يحتاج أن نطول فيه، وبحل الشبه المتقابلة من قياسات المتحير يمكننا أن نهديه. وأما المتعنت فينبغي أن يكلف شروع النار، إذ النار واللاّ نار واحد؛ وأن يؤلم ضرباً، إذا الوجع واللا وجع واحد؛ وأن يمنع الطعام والشراب، إذ الأكل والشرب وتركهما واحد. فهذا المبدأ الذي ذببنا عنه من يكذبه،هو أول مبادئ البراهين، وعلى الفيلسوف الأول أن يذب عنه. ومبادئ البراهين تنتفع في البراهين. والبراهين تنتفع في معرفة الأغراض الذاتية لموضوعاتها. لكن معرفة جوهر الموضوعات الذي كان فيما سلف يعرف بالحد فقط، فما يلزم الفيلسوف ههنا أن يحصله،

الصفحة : 29
فيكون لهذا العلم الواحد أن يتكلم في الأمرين جميعاً. لكن قد يتشكك على هذا أنه إن تكلم فيها، على سبيل التحديد والتصور، فهو ذاك الذي يتكلم فيه صاحب العلم الجزئي، وإن تكلم فيها في التصديق صار الكلام فيها برهانياً. فنقول: إن هذه التي كانت موضوعات في علوم أخرى تصير عوارض في هذا العلم، لأنها أحوال تعرض للموجود، وأقسام له، فيكون ما لا يبرهن عليه في علم آخر، يبرهن عليه ههنا. وأيضاً إذا لم يلتفت إلى علم آخر وقسم موضوع هذا العلم نفسه إلى جوهر وعوارض تكون خاصة له، فيكون ذلك الجوهر الذي هو موضوع لعلم ما أو الجوهر مطلقاً، ليس موضوع هذا العلم، بل قسماً من موضوعه، فيكون ذلك بنحو ما عارضاً لطبيعة موضوعه، الذي هو موجود، إن صار ذلك الجوهر دون شيء آخر لطبيعة الموجود أن تقارنه أو يكون هو. فإن الموجود طبيعة يصح حملها على كل شيء، كان ذلك الجوهر أو غيره، فإنه ليس لأنه موجود هو جوهر، أو جوهر ما، وموضوع ما، على ما فهمت، قبل هذا، فيما سلف. ومع هذا كله فليس البحث عن مبادئ التصور والحد حداً ولا تصوراً، ولا البحث عن مبادئ البرهان برهاناً، حتى يصير البحثان المتخالفان بحدثاً واحداً.
الصفحة : 30
المقالة الثانية
وفيها أربعة فصول
الفصل الأول: (أ)
فصل في تعريف الجوهر وأقسامه بقول كلي
فنقول: إن الوجود للشيء قد يكون بالذات مثل وجود الإنسان إنساناً، وقد يكون بالعرض مثل وجود زيد أبيض. والأمور التي بالعرض لا تحد. فلنترك الآن ذلك ولنشتغل بالموجود، والوجود الذي بالذات. فأقدم أقسام الموجودات بالذات هو الجوهر، وذلك لأن الموجود قسمين: أحدهما، الموجود في شيء آخر، ذلك الشيء الآخر متحصل القوام والنوع في نفسه، وجوداً لا كوجود جزء منه، من غير أن تتضح مفارقته لذلك الشيء، وهو الموجود في موضوع؛ والثاني، الموجود من غير أن يكون في شيء من الأشياء بهذه الصفة، فلا يكون في موضوع البتة، وهو الجوهر. وإن كان ما أشير إليه في القسم الأول موجوداً في موضوع، فلذلك الموضوع لا يخلو أيضاً من أحد هذين الوصفين؛ فإن كان الموضوع جوهراً فقوام العرض في الجوهر، وإن لم يكن جوهراً كان أيضاً في موضوع ورجع البحث إلى الإبتداء، واستحال ذهاب ذلك إلى غير النهاية، كما سنبين في مثل هذا المعنى خاصة. فيكون لا محالة آخره فيما ليس في موضوع، فيكون في جوهره، فيكون الجوهر مقوم العرض موجوداً، وغير متقوم بالعرض، فيكون الجوهر هو المقدم في الوجود. وأما أنه هل يكون عرض في عرض، فليس بمستنكر، فإن السرعة في الحركة، والإستقامة في الخط، والشكل المسطح في البسيط، وأيضاً فإن الأعراض تنسب إلى الوحدة والكثرة، وهذه، كما سنبين لك، كلها أعراض. والعرض وإن كان في عرض فهماً جميعاً معاً في موضوع، والموضوع بالحقيقة هو الذي يقيمها جميعاً، وهو قائم بنفسه. ثم قد يجوز كثير ممن يدعي المعرفة أن يكون شيء من الأشياء جوهراً وعرضاً معا بالقياس إلى شيئين، فيقول: إن الحرارة عرض في غير جسم النار، لكنها في جملة النار ليست بعرض لأنها موجودة فيه كجزء، وأيضاً ليس يجوز رفعها عن النار، والنار تبقى، فإذن وجودها في النار ليس وجود العرض فيها، فإذ لم يكن وجودها فيها وجود العرض، فوجودها فيها وجود الجوهر. وهذا غلط كبير، وقد أشبعنا
الصفحة : 31
القول فيه في أوائل المنطق، وإن لم يكن ذلك موضعه، فإنهم إنما غلطوا فيه هناك. فنقول: قد علم، فيما سلف، أن بين المحل والموضوع فرقاً، وأن الموضوع يعنى به ما صار بنفسه ونوعه قاماً، ثم صار سبباً لأن يقوم به شيء فيه ليس كجزء منه. وأن المحل كل شيء يحله شيء فيصير بذلك الشيء بحال ما، فلا يبعد أن يكون شيء موجوداً في محل ويكون ذلك المحل لم يصر بنفسه نوعاً قائماً كاملاً بالفعل، بل إنما تحصل قوامه من ذلك الذي حله وحده، أو مع شيء آخر، أو أشياء أخرى اجتمعت، فصيرت ذلك الشيء موجوداً بالفعل، أو صيرته نوعاً بعينه. وهذا الذي يحل هذا المحل يكون لا محالة موجوداً لا في الموضوع. وذلك لأنه ليس يصلح أن يقال: إنه في شيء، إلاّ في الجملة، أو في المحل، وهو في الجملة كجزء، وكان الموضوع ما يكون فيه الشيء، وليس كجزءمنه، وهو في المحل ليس كشيء حصل في شيء، ذلك الشيء قائم بالفعل نوعاً، ثم يقيم الحال فيه؛ بل هذا المحل جعلناه إنما يقوم بالفعل بتقويم ما حله، وجعلنا إنما يتم له به نوعيته إذا كانت نوعيته إنما تحصل أو تصير له نوعية باجتماع أشياء جملتها يكون ذلك النوع. فبين أن بعض ما في المحل ليس في الموضوع. وأما إثبات هذا الشيء الذي هو في محل دون موضوع، فذلك علينا إلى قريب. وإذا أثبتناه، فهو الشيء الذي يخصه في مثل هذا الموضوع بإسم الصورة، وإن كنا قد نقول لغيره أيضاً صورة باشتراك الأسم. وإذا كان الموجود لا في الموضوع هو المسمى جوهراً، فالصورة أيضاً جوهر. فأما المحل الذي لا يكون في محل آخر فلا يكون في موضوع لا محالة، لأن كل موجود في موضوع فهو موجود في محل ولا ينعكس. فالمحل الحقيقي أيضاً جوهر، وهذا المجتمع أيضاً جوهر. وقد عرفت من الخواص التي لواجب الوجود أن واجب الوجود لا يكون إلاّ واحداً، وأن ذا الأجزاء أو المكافئ لوجوده لا يكون واجب الوجود، فمن هذا يعرف أن هذا مركب، وهذه الأجزاء كلها في أنفسها، ممكنة الوجود، وأن لها لا محالة سبباً يوجب وجودها. فنقول أولاً: إن كل جوهر فإما أن يكون جسماً، وإما أن يكون غير جسم، فإن كان غير جسم فإما أن يكون جزء جسم، وإما أن لا يكون جزء جسم، بل يكون مفارقاً للأجسام بالجملة. فإن كل جزء جسم فإما أن يكون صورته، وإما أن يكون مادته. وإن كان مفارقاً ليس جزء جسم فإما أن تكون له علاقة تصرف ما في الأجسام بالتحريك ويسمى نفساً، أو يكون متبرئاً عن المواد من كل جهة ويسمى عقلاً. ونحن نتكلم في إثبات كل واحد من هذه الأقسام.
الفصل الثاني: (ب)
الصفحة : 32
فصل في تحقيق الجوهر الجسماني وما يتركب منه وأول ذلك معرفة الجسم وتحقيق ماهيته.
أما البيان أن الجسم جوهر واحد متصل وليس مؤلفاً من أجزاء لا تتجزأ، فقد فرغنا منه، وأما تحقيقه وتعريفه فقد جرت العادة بأن يقال: إن الجسم جوهر طويل عريض عميق، فيجب أن ينظر في كيفية ذلك. لكن كل واحد من ألفاظ الطول والعرض والعمق يفهم منه أشياء مختلفة. فتارة يقال: طول للخط كيفما كان، وتارة يقال طول لأعظم الخطين المحيطين بالسطح مقداراً، وتارة يقال طول لأعظم الأبعاد المختلفة الممتدة المتقاطعة كيف كانت خطاً أو غير خط، وتارة يقال طول للبعد المفروض بين الرأس ومقابله من القدم أو الذنب من الحيوان. واما العرض فيقال للسطح نفسه، ويقال لأنقص البعدين مقداراً، ويقال للبعد الواصل بين اليمين واليسار. والعمق أيضاً قد يقال لمثل البعد الواصل بين سطحين، وقد يقال له مأخوذاً ابتداء من فوق، حتى إن ابتدأ من أسفل سمي سمكاً. فهذه هي الوجوه المشورة في هذا. وليس يجب أن يكون في كل جسم خط بالفعل، فإن الكرة ليس فيها خط بالفعل البتة ولا يتعين فيها المحور ما لم تتحرك؛ وليس من شرط الكرة في أن تصير جسماً أن تكون متحركة حتى يظهر فيها محوراً أو خط آخر. فإنها تتحقق جسماً بما يحقق الجسمية، ثم يعرض لها أو يلزمها الحركة. وأيضاً الجسم ليس يجب أن يكون فيه من حيث هو جسم سطح، فإنه إنما يجب فيه من حيث يكون متناهياً، وليس يحتاج في تحققه جسماً ومعرفتنا إياه جسماً إلى أن يكون متناهياً، بل التناهي عارض لازم له، ولذلك لا يحتاج إلى تصوره جسم حين يتصور الجسم. ومن تصور جسماً غير متناه فلم يتصور جسماً لا جسماً، ولا يتصور عدم المتناهي إلاّ المتصور جسماً. لكنه أخطأ كمن قال: إن الجسم آلة، فقد أخطأ في التصديق ولم يخطئ في تصور بسيطة وهما الموضوع والمحمول. ثم إن كان لا بد للجسم في تحققه جسماً أن تكون له سطوح، فقد يكون جسم محيط به سطح واحد وهو الكرة. وليس أيضاً من شرط الجسم في أن يكون جسماً أن تكون له أبعاد متفاضلة، فإن المكعب أيضاً جسم مع أنه محاط بحدود ستة، ومع ذلك ليس فيه أبعاد متفاضلة حتى يكون له طول وعرض وعمق بأحد المعاني. ولا أيضاً يتعلق كونه جسماً بأن يكون موضوعاً تحت السماء، حتى تعرض له الجهات لأجل جهات العالم، ويكون له طول وعرض وعمق بمعنى آخر، وإن كان لا بد من أن يكون إما سماء وإما في
الصفحة : 33
سماء. فبين من هذا أنه ليس يجب أن يكون في الجسم ثلاثة أبعاد بالفعل على الوجوه المفهومة من البعاد الثلاثة حتى يكون جسماً بالفعل. فإذا كان الأمر على هذا، فكيف يمكننا أن نضطر أنفسنا إلى فرض أبعاد ثلاثة بالفعل، موجودة في الجسم، حتى يكون جسماً، بل معنى هذا الرسم للجسم أن الجسم هو الجوهر الذي يمكنك أن تفرض فيه بعداً كيف شئت ابتداء، فيكون ذلك المبتدأ هو الطول، ثم يمكنك أن تفرض أيضاً بعداً آخر مقاطعاً لذلك البعد على قوائم، فيكون ذلك البعد الثاني هو العرض، ويمكنك أن تفرض فيه بعداً ثالثاً مقاطعاً لهذين البعدين على قوائم تتلاقى الثلاثة على موضع واحد، ولا يمكنك أن تفرض بعداً عمودياً بهذه الصفة غير هذه الثلاثة. وكون الجسم بهذه الصفة هو الذي يشار لأجله إلى الجسم بأنه طويل عريض عميق، كما يقال: إن الجسم هو المنقسم في جميع الأبعاد. وليس يعني أنه منقسم بالفعل مفروغ عنه، بل على أنه من شأنه أن يفرض فيه هذا القسم. فهكذا يجب أن يعرف الجسم، وهو أنه الجوهر الذي كذا صورته، وهو بها هو ما هو، ثم سائر الأبعاد المفروضة فيه بين نهاياته ونهاياته أيضاً وأشكاله وأوضاعه أمور ليست مقومة له، بل هي تابعة لجوهره. وربما لزم بعض الأجسام شيء منها أو كلها، وربما لم يلزم بعض الأجسام شيء منها أو بعضها. ولو أنك أخذت شمعة فشكّلتها بشكل افترض لها ابعاد بالفعل بين تلك النهايات معدودة مقدرة محدودة، ثم إذا غيرت ذلك الشكل لم يبق شيء منها بالفعل واحداً بالشخص بذلك الحد وبذلك القدر، بل حدثت أبعاد أخرى مخالفة لتلك بالعدد، فهذه الأبعاد هي التي من باب الكم. فإن اتفق أن كان جسماً، كالفلك مثلاً، تلزمه أبعاد واحدة، فليس ذلك له بما هو جسم، بل لطبيعة أخرى حافظة لكمالاته الثانية. فالجسمية بالحقيقة صورة الإتصال القابل لما قلناه من فرض الأبعاد الثلاثة. وهذا المعنى غير المقدار وغير الجسمية التعليمية. فإن هذا الجسم من حيث له هذه الصورة لا يخالف جسماً آخر بأنه أكبر أو أصغر، ولا يناسبه بأنه مساوٍ أو معدود به وعاد له أو مشارك أو مباين، وإنما ذلك له من حيث هو مقدّر ومن حيث جزء منه يعده. وهذا الإعتبار له غير اعتبار الجسمية التي ذكرنا. وهذه الأشياء قد شرحناها لك بوجه أبسط في موضع آخر يحتاج أن تستعين به.
الصفحة : 34
ولهذا ما يكون الجسم الواحد يتخلخل ويتكاثف بالتسخين والتبريد، فيختلف مقدار جسميته. وجسميته التي ذكرناها لا تختلف ولا تتغير، فالجسم الطبيعي جوهر بهذه الصفة. وأما قولنا: الجسم التعليمي. فإما أن يقصد به صورة هذا من حيث هو محدد، مقدّر، مأخوذ في النفس، ليس في الوجود، أو يقصد به مقدار ما ذو اتصال أيضاً بهذه الصفة من حيث له اتصال محدود مقدر كان في نقش أو في مادة. فالجسم التعليمي كأنه عارض في ذاته لهذا الجسم الذي بيناه، والسطح نهايته، والخط نهاية نهايته. وسنوضح القول فيما بعد فيها، وننظر في أن الإتصال كيف يكون لها وكيف يكون للجسم الطبيعي. فنقول أولاً: إن منطباع الأجسام أن تنقسم ولا يكفي في إثبات ذلك المشاهدات؛ فإن لقائل أن يقول: إن الأجسام المشاهدة ليس شيء منها هو جسم واحد صرفاً، بل هي مؤلفة من أجسام، وإن الأجسام الوحدانية غير محسوسة، وأنها لا يمكن أن تنقسم بوجه من الوجوه. وقد تكلمنا على إبطال هذا بالبيانات الطبيعية، وخصوصاً على أسهل المذاهب نقضاً، وهو مذهب من خالف بينها بالأشكال. فإن قال قائل: إن طبائعها و أشكالها متشاكلة. فحينئذ يجب أن يبطل مذهبه ورأيه بما أقول. فنقول: إن جعل أصغر الأجسام لا قسمة فيه لا بالقوة ولا بالفعل حتى كان كالنقطة جملة، فإن ذلك الجسم يكون لا محالة حكمه حكم النقطة في امتناع تأليف الجسم المحسوس عنه، وإن لم يكن كذلك، بل كان في ذاته بحيث يمكن أن يفرد منه قسم عن قسم. لكنه ليس يطيع الفصل المفرق بين القسمين اللذين يمكن فرضهما فيه توهماً. فنقول: لا يخلو إما أن يكون حال ما بين القسم والقسم مخالفة لحال ما بين الجزء والجزء في أن الجزئين لا يلتحمان وأن القسمين لا يفترقان، أمراً لطبيعة الشيء وجوهره، أو من سبب من خارج الطبيعة والجوهر. فإن كان سبباً من خارج عن الطبيعة والجوهر فإما أن يكون سبباً يتقوم به الطبيعة والجوهر بالفعل كالصورة للمادة والمحل للعرض، أو سبباً لا يتقوم به. فإن كان سبباً لا يتقوم به فجائز من حيث الطبيعة والجوهر أن يكون بينهما إلتئام عن افتراق وافتراق عن إلتئام، فتكون هذه الطبيعة الجسمية باعتبار نفسها قابلة للإنقسام و إنا لا تنقسم بسبب من خارج. وهذا القدر يكفينا فيما نحن بسبيله. وأما إن كان ذلك السبب يقوم به كل واحد من الأجزاء إما تقوماً داخلاً في طبيعته وماهيته، أو تقوماً في وجوده بالفعل غير داخل في ماهيته مختلفاً فيه فيعرض أول ذلك أن هذه الأجسام مختلفة الجواهر.
الصفحة : 35
وهؤلاء لا يقولون به. وثانياً أن طبيعة الجسمية التي لها لا يكون مستحيلاً عليها ذلك وإنما يستحيل ذلك عليها من حيث صورة تنوعها، ونحن لا نمنع ذلك، ويجوز أن يقارن الجسمية شيء يجعل ذلك الجسم قائماً نوعاً لا يقبل القسمة ولا الإتصال بغيره؛ وهذا قولنا في الفلك. والذي يحتاج إليه ههنا هو أن تكون طبيعة الجسمية لا تمنع ذلك بما هي طبيعة الجسمية. فنقول أولاً: قد تحققنا أن الجسمية من حيث هي جسمية ليست غير قابلة للإنقسام، ففي كلطباع الجسمية أن تقبل الإنقسام. فيظهر من هذا أن صورة الجسم والأبعاد قائمة في شيء. وذلك أن هذه الأبعاد هي الإتصالات أنفسها أو شيء يعرض للإتصال، على ما سنحققها، وليست أشياء يعرض لها الإتصال. فإن لفظ الأبعاد إسم لنفس الكميات المتصل لا للأشياء التي تعرض لها الإتصال. والشيء الذي هو الإتصال نفسه أو المتصل بذاته فمستحيل أن يبقى هو بعينه، وقد يظل الإتصال. فكل إتصال بُعد إذا انفصل بطل ذلك البعد وحصل بعدان آخران. وكذلك إذا حصل إتصال، أعني الإتصال بالمعنى الذي هو فصل لا عروض، وقد بينا هذا في موضع آخر. فقد حدث بعد آخر وبطل كل واحد مما كان بخاصيته. ففي الأجسام إذن شيء موضوع للإتصال والإنفصال، ولما يعرض للإتصال من المقادير المحدودة. وأيضاً فإن الجسم من حيث هو جسم له صورة الجسمية، فهو شيء بالفعل؛ ومن حيث هو مستعد أي استعداد شئت فهو بالقوة؛ ولا يكون الشيء من حيث هو بالقوة شيئاً هو من حيث هو بالفعل شيئاً آخر، فتكون القوة للجسم لا من حيث له الفعل. فصورة الجسم تقارن شيئاً آخر غير له في أنه صورة، فيكون الجسم جوهراً مركباً من شيء عنه له القوة، ومن شيء عنه له الفعل. فالذي له به الفعل هو صورته، والذي عنه بالقوة هو مادته، وهو الهيولي. ولسائل أن يسأل ويقول: فالهيولي أيضاً مركبة، وذلك لأنها في نفسها هيولي وجوهر بالفعل، وهي مستعدة أيضاً. فنقول: إن جوهر الهيولي وكونها بالفعل هيولي ليس شيئاً آخر إلاّ أنه جوهر مستعد لكذا، والجوهرية التي لها تجعلها بالفعل شيئاً من الأشياء، بل تُعدها لأن تكون بالفعل شيئاً بالصورة. وليس معنى جوهريتها إلاّ أنها أمر ليس في موضوع. فالإثبات ههنا هو أنه أمر، وأما أنه ليس في موضوع فهو سلب، "وأنه أمر" ليس يلزم منه أن يكون شيئاً معيناً بالفعل لأن هذا عام، ولا يصير الشيء بالفعل شيئاً بالأمر العام ما لم يكون له فصل يخصه وفصله أنه مستعد لكل شيء، فصورته التي تظن له هي أنه مستعد قابل.
الصفحة : 36
فإذن ليس ههنا حقيقة للهيولي تكون بها بالفعل، وحقيقة أخرى بالقوة؛ إلاّ أن يطرأ عليه حقيقة من خارج، فيصير بذلك الفعل وتكون، في نفسها واعتبار وجود ذاتها، بالقوة. وهذخ الحقيقة هي الصورة. ونسبة الهيولي إلى هذين المعنيين أشبه بنسبة البسيط إلى ما هو جنس وفصل من نسبة المركب إلى ما هو هيولي وصورة. فقد بان من هذا أن صورة الجسمية من حيث هي صورة الجسمية محتاجة إلى مادة، ولأن طبيعة الصورة الجسمية في نفسها من حيث هي صورة جسمية لا تختلف. فإنها طبيعية واحدة بسيطة، ليس يجوز أن تتنوع بفصول تدخل عليها بما هي جسمية، فإن دخلتها فصول تكون أموراً تنضاف إليها من خارج، وتكون أيضاً إحدى الصور المقارنة للمادة، ولا يكون حكمها معها حكم الفصول الحقيقية. وبيان هذا هو أن الجسمية إذا خالفت جسمية الأخرى فيكون لأجل أن هذه حارة وتلك باردة، أو هذه لها طبيعة فلكية وتلك لها طبيعة أرضية. وليس هذا كالمقدار الذي ليس هو في نفسه شيئاً محصلاً ما لم يتنوع بأن يكون خطاً أو سطحاً أو جسماً، وكالعدد الذي هو ليس شيئاً محصلاً ما لم يتنوع أثنين أو ثلاثة أو أربعة. ثم إذا تحصل لا يكون تحصيله بأن ينضاف إليه شيء من خارج، وتكون الطبيعة الجنسية كالمقدارية أو العددية دونها طبيعة قائمة مشار إليها تنضاف إليها طبيعة أخرى فتتنوع بها؛ بل تكون طبيعة الإثنينية نفسها هي العددية التي تحمل على الإثنينية وتختص بها، والطولية نفسها هي المقدارية التي تحمل عليها وتختص بها. وأما ههنا فلا يكون كذلك، بل الجسمية إذا أضيف إليها صورة أخرى لا تكون تلك الصورة التي تظن فصلاً والجسمية باجتماعها جسمية، بل تكون الجسمية أحدهما متحصلة في نفسها متحققة. فإنا نعني ههنا بالجسمية التي كالصورة لا التي كالجنس، وقد عرفت الفرق بينهما في كتاب البرهان، وسيأتيك ههنا إيضاح وبيان لذلك. على أنك قد تحققت فيما تبين لك الفرق بينهما، ما كان كالمقدار يجوز أن تكون أنواعه تختلف بأمور لها في ذاتها؛ والمقدار المطلق لا يكون له في ذاته شيء منها، وذلك لأن المقدار المطلق لا تتحصل له ذات متقررة إلاّ أن تكون خطاً أو سطحاً، فإذا تحصل خطاً أو سطحاً جاز أن يكون للخط لذاته، مخالفة للسطح بفصل هو محصل لطبيعة المقدارية، خطاً أو سطحاً. وأما الجسمية التي نتكلم فيها فهي في نفسها طبيعة محصلة، ليس تحصل نوعيتها بشيء ينضم إليها، حتى لو توهمنا أنه لم ينضم إلى الجسمية معنى، بل كانت جسمية لم يكون متحصلاً في أنفسنا إلاّ مادة
الصفحة : 37
وإتصال فقط. وكذا إذا أثبتنا مع الإتصال شيئاً آخر فليس لأن الإتصال نفسه لا يتحصل لنا إلاّ بإضافته إليه وقرنه به، بل بحجج أخرى تبين أن الإتصال لا يوجد بالفعل وحده. فليس أن لا يوجد الشيء بالفعل موجوداً هو أن لا تتحصل طبيعته، فإن البياض والسواد كل شيء منهما متحصل الطبيعة معنى متخصصاً، أتم تخصيصه الذي هو في ذاته؛ ثم لا يجوز أن يوجد بالفعل إلاّ في مادة. وأما المقدار مطلقاً فيستحيل أن يتحصل طبيعة مشاراً إليها إلاّ أن يتحصل بالضرورة خطاً أو سطحاً، حتى يصير جائزاً أن يوجد، لا أن المقدار يجوز أن يوجد مقداراً، ثم يتبعه أن يكون خطاً أو سطحاً على سبيل أن ذلك شيء لا يوجد الأمر دونه بالفعل. وإن كان متحصل الذات، فإن هذا ليس كذلك، بل الجسمية تتصور أنها وجدت بالأسباب التي لها أن توجد بها وفيها وهي جسمية فقط بلا زيادة، والمقدار لا يتصور أنه وجد بالأسباب التي له أن يوجد بها وفيها وهو مقدار فقط بلا زيادة. فذلك المقدار لذاته يحتاج إلى فصول حتى يوجد شيئاً متحصلاً، وتلك الفصول ذاتيات له لا تحوجه إلى أن يصير لحصولها غير المقدار. فيجوز أن يكون مقداراً يخالف مقداراً في أمر له بالذات. وأما صورة الجسمية من حيث هي جسمية فهي طبيعة واحدة بسيطة محصلة لا اختلاف فيها، ولا تخالف مجرد صورة جسمية لمجرد صورة جسمية بفصل داخل في الجسمية، وما يلحقها إنما يلحقها على أنها شيء خارج عن طبيعتها. فلا يجوز إذن أن تكون جسمية محتاجة إلى مادة، وجسمية غير محتاجة إلى مادة. واللواحق الخارجية لا تغنيها عن الحاجة إلى المادة بوجه من الوجوه، لأن الحاجة إلى المادة إنما تكون للجسمية ولكل ذي مادة لأجل ذاته، وللجسمية من حيث هي جسمية لا من حيث هي جسمية مع لاحق. فقد بان أن الأجسام مؤلفة من مادة وصورة.
الفصل الثالث: (ج)
الصفحة : 38
فصل في أن المادة الجسمانية لا تتعرى عن الصورة.
ونقول الآن إن هذه المادة الجسمانية يستحيل أن توجد بالفعل متعرية عن الصورة. ومما يوضح ذلك بسرعة أنا بينا أن كل وجود يوجد فيه شيء بالفعل محصل قائم، وأيضاً استعداد لقبول شيء آخر، فذلك الوجود مركب من مادة وصورة، والمادة الأخيرة غير مركبة من مادة وصورة. وأيضاً إنها فارقت الصورة الجسمية فلا يخلو إما أن يكون لها وضع وحيز في الوجود الذي لها حينئذ، أو لا يكون، فإن كان لها وضع وحيز وكان يمكن أن تنقسم فهي لا محالة ذات مقدار وقد فرض لا مقدار لها، وإن لم يمكن أن تنقسم ولها وضع فهي لا محالة نقطة ويمكن أن ينتهي إليها خط، ولا يجوز أن تكون مفردة الذات منحازة، على ما علمت في مواضع. وأنا إن كان هذا الجوهر لا ضع له ولا إليه إشارة، بل هو كالجواهر المعقولة، لم يخل إما أن يحل فيه البُعد المحصل بأسره دفعة، أو يتحرك هو إلى كمال مقداره تحركاً على الإتصال. فإن حل فيه المقدار دفعة وحصل لا محالة مع تقدره في حيز مخصوص فيكون قد صادفه المقدار مختصاً بحيز، وإلاّ لم يكن حيز أولى به من حيز، فقد صادفه المقدار حيث انضاف إليه، فيكون لا محالة قد صادفه وهو في الحيز الذي هو فيه، فيكون ذلك الجوهر متحيزاً، إلاّ أنه عساه أة لا يكون محسوساً، وقد قد فرض غير متحيز البتة، هذا خلف. ولا يجوز أن يكون التحيز قد حصل له دفعة من قبول المقدار، لأن المقدار إن وافاه وليس هو في حيز كان المقدار يقترن به لا في حيز، ولم يكن يوافيه في حيز مخصوص من الأحياز المختلفة المحتملة له، فيكون حينئذ لا حيز له، وهذا محال؛ أو يكون في كل حيز يمكن أن يكون له لا يخصصه ببعضه، وهذا أيضاً محال. وهذا يظهر ظهوراً أكثر في توهمنا الهيولي مدرة ما قد تجردت ثم حصل حصل فيها صورة تلك المدرة، فلا يجوز أن تحصل فيها وليست في حيز، ولا يجوز أن تكون تلك المدرة تحصل في كل حيز هو بالقوة حيز طبيعي للمدرة، فإن المدرية لا تجعلها شاغلة لكل حيز لنوعها، ولا تجعلها أولى بجهة من حيزها دون جهة، ولا يجوز أن توجد إلاّ في جهة مخصوصة من جملة كلية الحيز، ولا يجوز أن تتحصل في جهة مخصوصة، ولا مخصص له بها من الأحوال. إذ ليس إلاّ اقتران صورة بمادة، وذلك مشترك الإحتمال للحصول في أي جهة كانت من الجهات الطبيعية لأجزاء الأرض. وقد علمت أن مثل هذا الحصول في جهة من الحيز إنما يكون فيما يكون بسبب وقوعه بالقرب منه بقسر قاسر خصص ذلك القرب باتجاهه إلى ذلك المكان بعينه بالحركة المستقيمة أو حدوثه في الإبتداء هناك. وبذلك القرب
الصفحة : 39
أو وقوعه فيه بنقل ناقل لذلك تخصص، وقد أشبع لك الكلام في هذا. فالهيولي التي للمدرة لا تختص بعد التجريد، لم ليس صورة للمدرية بجهة إلاّ أن يكون لها مناسبة مع تلك الجهة لتلك المناسبة لا ليس لكونها هيولي أولاً؛ ولا لنفس إكتسابها بالصورة ثانياً تخصصت بها؛ وتلك المناسبة وضع ما. وكذلك إن كان قبوله المقدار بكمله لا دفعة، بل هو على انبساط، وعلى أن كل ما من شأنه أن ينبسط، فله جهات، وكل ما له جهات فهو ذو وضع فيكون ذلك الجوهر ذا وضع وحيز، وقيل لا وضع له ولا حيز، وهذا خلف. والذي أوجب هذا كله فَرضُنا أنه يفارق الصورة الجسمية، فيمتنع أن يوجد بالفعل إلاّ متقوماً بالصورة الجسمية، وكيف تكون ذاتٌ لا حيز لها في القوة ولا في الفعل تقبل الكم؟ فتبين أن المادة لا تبقى مفارقة. وأيضاً فإنها لا تخلو إما أن يكون وجودها وجود قابل، فيكون دائماً قابلاً لشيء لا يعرى عن قبوله لها، وإما أن يكون لها وجود خاص متقوم، ثم يلحق به أن يقبل بوجودها الخاص المتقوم غير ذي كم وغير ذي حيز، فيكون المقدار الجسماني هو الذي عرض له وصير ذاته بحيث له بالقوة أجزاء بعد ما آن لذاته أن تقوّم جوهراً في نفسه غير ذي حيز ولا كمية ولا قبول قسمة. فإن كان قبوله الخاص الذي يتقوم به لا يبقى عند التكثر أصلاً، فيكون ما هو متقوم بأنه لا حيز له، ولا ينقسم بالوهم، والعرض يعرض له أن يبطل عنه ما يتقوم به الفعل لورود عارض عليه، وإن كانت تلك الوحدانية لا لما تقوّم به الهيولي؛ بل لأمر آخر. ويكون ما فرضناه وجوداً خاصاً به يتقوم، فيكون حينئذ للمادة صورة عارضة بها تكون واحدة بالقوة والفعل، وصورة أخرى عارضة بها تكون تكون غير واحدة بالقوة والفعل. فيكون بين الأمرين شيء مشترك، هو قابل للأمرين، من شأنه أن يصير مرة وليس في قوته أن ينقسم ومرة أخرى وفي قوته أن ينقسم أعني القوة القريبة التي لا واسطة لها. فلنفرض الآن هذا الجوهر وقد صار بالفعل اثنين، وكل واحد منهما بالعدد غير الآخر، وحكمه أنه يفارق الصورة الجسمانية، فليفارق كل واحد منهما الصورة الجسمانية، فيبقى كل واحد منهما جوهراً واحداً بالقوة والفعل. ولنفرضه بعينه أنه لم ينقسم إلاّ أنه أزيل عنه الصورة الجسمانية حتى يبقى جوهراً واحداً بالقوة والفعل، فلا يخلو إما أن يكون بعينه هذا الذي يبقى جوهراً وهو غير جسم، هو بعينه مثل الذي هو كجزئه الذي بقي كذلك مجرداً أو يخالفه؛ فإم خالفه فلا يخلو إما أن يكون لأن هذا بقي وذلك
الصفحة : 40
عُدم، أو بالعكس، أو يكون كلاهما قد بقيا - ولكن تختص بهذا كيفية أو صورة لا توجد إلاّ لذلك - أو يختلفان بالتفاوت بعد الإتفاق في المقدار أو الكيفية أو غير ذلك. فإن بقي أحدهما وعُدم الآخر، والطبيعة واحدة، متشابهة، وإنما أعدَم أحدهما رَفعُ الصورة الجسمانية فيجب أن يعدم الآخر ذلك بعينه. وإن اختص بهذا كيفية، والطبيعة واحدة ولم تحدث حالة إلاّ مفارقة للصورة الجسمانية، ولم يحدث مع هذه حالة إلاّ ما يلزم هذه الحالة، فيجب أن يكون حال الآخر كذلك. فإن قيل: إن الأولين وهما اثنان متحدان فيصيران واحداً؛ فنقول: ومحال أن يتحد جوهران، لأنهما إن اتحدا وكل منهما موجود فهما اثنان لا واحد، وإن اتحدا وأحدهما معدوم والآخر موجود فالمعدوم كيف يتحد بالموجود؟ وإن عدما جميعاً باالإتحاد وحدث شيء ثالث منهما فهما غير متحدين بل فاسدين، وبينهما وبين الثالث مادة مشتركة، وكلامنا في نفس المادة لا في شيء ذي مادة. وأما إن إختلفا بالتفاوت في المقدار أو غير ذلك، فيجب أن يكونا وليس لهما صورة جسمانية ولهما صورة مقدارية، وهذا خلف. وأما إن لا يختلفا بوجه من الوجوه، فيكون حينئذ حكم الشيء لو لم ينفصل عنه ما هو غيره، هو حكمه بعينه وقد انفصل عنه غيره، وحكمه مع غيره وحكمه وحده ومن كل جهة حكماً واحداً، هذا خلف. أعني أن يكون حكم بعض الموضوع وحكم كله واحداً من كل جهة، أعني أن يكون لو كان الشيء لن ينقص بأن يؤخذ منه شيء كما إذا أخذ منه شيء، وحكمه ولم يضف إليه شيء حكمه وقد أضيف إليه شيء. وبالجملة كل شيء يجوز في وقت من الأوقات أن يصير اثنين، ففي طباع ذاته استعداد للإنقسام لا يجوز أن يفارقه، وربما يمتنع عنه بعارض غير استعداد الذات، وذلك الاستعداد محال إلاّ بمقارنة المقدار للذات. فبقي أن المادة لا تتعرى عن الصورة الجسمية. ولأن هذا الجوهر إنما صار كمّاً بمقدار حله،فليس بكم ذاته، فليس يجب أن تختص ذاته بقبول قطر بعينه دون قطر وقدر دون قدر، وإن كانت الصورة الجسمية واحدة ونسبة ما هو غير مجتزئ ولا مكمّم في ذاته، بل إنما يتجزأ ويتكمم بغيره إلى أي مقدار يجوز وجوده نسبة واحدة، وإلاّ فله مقدار في ذاته يطابق ما يساويه دون ما يفضل عليه. فبين من هذا أنه يمكن أن تصغر المادة بالتكاثف وتكبر بالتخلخل، وهذا محسوس بل يجب أن يكون
الصفحة : 41
تعين المقدار عليها بسبب يقتضي في الوجود ذلك المقدار. وذلك لسبب لايخلو إما أن يكون أحد الصور والأعراض التي تكون في المادة، أو سبباً من خارج. فإن كان سبباً من خارج فإما أن يفيد ذلك المقدار المقدر بتوسط أمر آخر أو بسبب استعداد خاص. فيكون حكم هذا وحكم القسم الأول واحداً يرجع إلى أن الأجسام لإختلاف أحوالها تختلف مقاديرها. وإما أن لا تكون الإفادة بسبب ذلك وبتوسطه، فتكون الأجسام متساوية الإستحقاق للكم ومتساوية الأحجام، وهذا كاذب. ومع ذلك أيضاً فليس يجب أن يصدر عن ذلك السبب حجم بعينه دون حجم إلاّ لأمر، وأعني بذلك الأمر شرطاً ينضاف إلى المادة به تستحق المقدار المعين لا لنفس كونها مادة ولا أيضاً لكونها مادة لها مصور بالكمية، بل يكون للمادة شيء لأجله تستحق أن يصورها المصور بذلك الحجم والكمية. ويجوز أن تختلف بالنوع مطلقاً، ويجوز أن تختلف بالأشد والأضعف ليس بالنوع مطلقاً، وإن كان الأشد والأضعف قد يقارب الإختلاف في النوع، لكن بين الإختلاف بالنوع مطلقاً وبين الإختلاف بالأشد والأضعف مخالفة معلومة عند المعتبرين فقد علم ان الهيولي قد تتهيأ بعينها لمقادير مختلفة وهذا أيضاً مبدأ للطبيعيات. وأيضاً فإن كل جسم يختص لا محالة بحيز من الأحياز، و ليس له الحيز الخاص به بما هو جسم، وإلاّ لكان كل جسم كذلك، فهو إذن لا محالة مختص به لصورة ما في ذاته، وهذا بين. فإنه إما أن يكون غير قابل للتشكيلات والتفصيلات فيكون بصورة ما صار كذلك لأنه بما هو جسم قابل له، وإما أن يكون قابلاً لها بسهولة أو بعسر. وكيف ما كان، فهو على إحدى الصور المذكورة في الطبيعيات. فإذن المادة الجسمية لا توجد مفارقة للصورة. فالمادة إذن إنما تتقوم بالفعل بالصورة، فإذن المادة إذا جردت في التوهم، فقد فعل بها ما لا يثبت معه في الوجود.
الفصل الرابع: (د)
الصفحة : 42
فصل في تقديم الصورة على المادة في مرتبة الوجود.
فقد صح أن المادة الجسمانية إنما تقوم بالفعل عند وجود الصورة، وأيضاً فإن الصورة المادية ليست توجد مفارقة للمادة. فلا يخلو إما أن تكون بينهما علاقة المضاف فلا تعقل ماهية كل واحد منهما إلاّ مقولة بالقياس إلى الآخر. وليس كذلك، فإنا نعقل كثيرأ من الصورة الجسمانية، ونحتاج إلى تكلف شديد حتى نثبت أن لها مادة، وكذلك هذه المادة نعقلها الجوهر المستعد، ولا نعلم من ذلك أن ما تستعد له يجب أن يكون فيه منه شيء بالفعل إلاّ يبحث وينظر. نعم هي من حيث هي مستعدة مضافة إلى مستعد له وبينهما علاقة الإضافة، لكن كلامنا في مقايسة ما بين ذاتيهما دون ما يعرض لهما من إضافة أو يلزمهما، وقد عرفت كيف هذا. وأيضاً فإن كلامنا في الحال بين المادة وبين الصورة من حيث هي موجودة. والإستعداد لا يوجب علاقة مع شيء هو موجود لا محالة، وإن كان يجوز ذلك فلا يخلو إما أن تكون العلاقة بينهما علاقة ما بين العلة والمعلول، وإما أن تكون العلاقة بينهما علاقة أمرين متكافئي الوجود ليس أحدهما علة ولا معلولاً للآخر، ولكن لا يوجد أحدهما إلاّ والآخر يوجد. وكل شيئين ليس أحدهما علة للآخر ولا معلولاً له ثم بينهما هذه العلاقة فلا يجوز أن يكون رفع أحدهما علة لرفع علة الآخر من حيث هو ذات، بل يكون أمراً معه، أعني يكون رفعاً لا يخلو عن أن يكون مع رفع، لا رفعاً موجب رفع، إن كان ولا بد. وقد عرفت الفرق بين الوجهين، فقد عرفت أن الشيء الذي رفعه علتة لرفع شيء آخر فهو علته، فقد بان هذا لك قبل في مواضع على التفصيل وسيزداد إيضاحاً في خلل ما نفهمه. وأما الآن فقد علمت، ههنا، أنه فرق بين أن يقال في الشيء: إن رفعه علة لرفع شيء؛ وبين أن يقال: لا بد من أن يكون مع رفعه رفع شيء. فإن كان ليس رفع أحد هذين الشيئين المذكورين علة لرفع الآخر، بل لا بد من أن يكون مع رفعه إرتفاع الآخر، فلا يخلو إما أن يكون رفع المرفوع منهما يوجب رفع شيء ثالث غيرهما، أو يجب عن رفع شيء ثالث، حتى أنه لولا رفع عَرض لذلك الثالث لم يمكن رفع هذا، أو لا يكون شيء من ذلك. فإن لم يمكن، بل كان ليس يرتفع هذا إلاّ مع ذلك، وذلك إلاّ مع هذا من غير سبب ثالث غير طبيعتهما، فطبيعة كل واحد منهما متعلقة في الوجود، بالفعل، بالآخر. فإما أن يكون ذلك لماهيتهما فتكون مضافة، وقد بان أنها ليست مضافة؛ وإما أن يكون في وجودهما. وبين أن مثل هذا لا يكون واجب الوجود فيكون في ماهيته ممكن الوجود، لكنه يصير بغيره واجب الوجود
الصفحة : 43
فلا يجوز البتة أن يصير واجب الوجود بذلك الآخر؛ فقد بينا هذا. فيجب أن يصير واجب الوجود هو وصاحبه معه في آخر الأمر، إذا ارتقينا إلى العلل بشيء ثالث، ويكون ذلك الشيء الثالث، من حيث هو علة بالفعل لوجوب أحدهما، لا يصح رفع أحدهما إلاّ برفع كونه علة بالفعل. فيكون هذان إنما يرتفعان برفع سبب ثالث، وقد قلنا ليس كذلك، هذا خلف. فقد بطل هذا، وبقي الحق أحد القسمين الآخرين. فإن كان رفعهما بسبب رفع شيء ثالث حتى يكونا هما معلولاه، فلننظر كيف يمكن أن تكون ذات كل واحد منهما تتعلق بمقارنة ذات الآخر. فإنه لا يخلو إما أن يكون كل واحد منهما يجب وجوده من العلة بواسطة صاحبه، فيكون كل واحد منهما هو العلة القريبة لوجوب وجود صاحبه، وهذا محال، فقد بان أن هذا مستحيل فيما سلف من أقاويلنا؛ وإما أن يكون أحدهما بعينه أقرب إلى هذا الثالث، فيصير هو العلة الواسطة، والثاني هو المعلول، ويكون الحق هو القسم الذي قلنا: إن العلاقة بينهما علاقة يكون بها أحدهما علة الآخر والآخر معلولاً. فأما إن كان رفع أحدهما يوجب رفع ثالث يجب عن رفعه رفع الثاني منهما، فقد صار أحدهما علة العلة، وعلة العلة علة. والأمر يتقرر في آخره على أن يكون أحدهما معلولاً والآخر علة. فلننظر الآن أيهما ينبغي أن تكون العلة منهما. فأما المادة فلا يجوز أن تكون هي العلة لوجود الصورة، أما أولاً: فلأن المادة إنما هي مادة، لأن لها قوة القبول والاستعداد، والمستعد بما هو مستعد لا يكون سبباً لوجود ما هو مستعد له، ولو كان سبباً لوجب أن يوجد ذلك دائماً له من غير استعداد. وأما ثانياً: فإنه من المستحيل أن تكون ذات الشيء سبباً لشيء بالفعل وهو بعد بالقوة؛ بل يجب أن تكون ذاته قد صارت بالفعل، ثم صار سبباً لشيء آخر، سواء كان هذا التقدم بالزمان أو بالذات، أعني ولو لم يكن البتة موجوداً إلاّ وهو سبب للثاني، وإلاّ أن يقوم به الثاني بالذات، ولذلك يكون متقدماً بالذات. وسواء كان ما هو سبب له يقارن ذاته أو يكون مفارقاً ذاته، فإنه يجوز أن يكون بعض أسباب وجود الشيء إنما يكون عنه وجود شيء يكون مقارناً لذاته، وبعض أسباب وجود الشيء إنما يكون عنه وجود شيء مباين لذاته، فإن العقل ليس ينقبض عن تجويز هذا. ثم البحث يوجب وجود القسمين جميعاً، فإن كانت المادة سبباً للصورة فيجب أن تكون لها ذات بالفعل أقدم من الصورة، وقد منعنا هذا منعاً ليس بناؤه على أن ذاته لا يمكن أن يوجد إلاّ ملتزماً لمقارنة الصورة؛ بل على أن ذاته يستحيل وجودها أن يكون بالفعل إلاّ بالصورة؛ وبين الأمرين فرق. وأما ثالثاً فإنه إذا كانت المادة هي العلة القريبة للصورة، والمادة لا اختلاف لها في ذاتها، وما يلزم عن
الصفحة : 44
الشيء الذي لا اختلاف فيه لا اختلاف فيه البتة، فكان يجب أن تكون الصورة المادية لا اختلاف فيها. فإن كان اختلافها لأمور تختلف من أحوال للمادة، فتكون تلك الأمور هي الصور الأولى في المادة، ويعود الكلام بأصله جذعاً. فإن كان علة وجود هذه الصور المختلفة المادة وشيء آخر مع المادة ليس في المادة، حتى لا تكون المادة وحدها هي العلة القريبة، بل المادة وشيء آخر فيكون ذلك الشيء الآخر والمادة إذا اجتمعا جميعاً حصل صورة ما معينة في المادة. وإن كان شيء غير ذلك الآخر واجتمع مع المادة حصلت صورة غير تلك الصورة المعينة، فتكون المادة في الحقيقة لها قبول الصورة. وأما خاصية كل صورة فإنما تكون عن تلك العلل. وإنما تكون كل صورة هي هي بخاصيتها فتكون علة وجود كل صورة بخاصيتها هي الشيء الخارج، ولا يكون للمادة في تلك الخاصية صنع، وإنما كانت تلك الصورة موجودة وجودها بتلك الخاصية، فيكون لا صنع للمادة في خصوصية وجود كل صورة، إلاّ أنها لا بد منها في أن توجد لصورة فيها، وهذه خاصية العلة القابلية، فيبقى لها القبول فقط. فقد بطل أن تكون المادة علة للصورة بوجه من الوجوه. وقد بقي أن تكون الصورة وحدها هي التي بها يجب وجود المادة. فلننظر هل يمكن أن تكون الصورة وحدها هي التي بها يجب وجود المادة. فنقول: أما الصورة التي لا تفارقها مادتها فذلك جائز فيها، وأما الصورة التي تفارق المادة، وتبقى المادة موجودة بصورة أخرى، فلا يجوز ذلك فيها. وذلك لأن هذه الصورة، لو كانت وحدها لذاتها علة، لكانت المادة تعدم بعد عدمها، وتكون للصورة المستأنفة مادة أخرى توجد عنها، ولكانت تلك المادة حادثة، ولكان يحتاج لها إلى مادة أخرى. فيجب إذن أن تكون علة وجود المادة شيئاً مع الصورة، حتى تكون المادة إنما يفيض وجودها عن ذلك الشيء. لكن يستحيل أن يكمل فيضانه عنه بلا صورة البتة، بل إنما يتم الأمر بهما جميعاً. فيكون تعلق المادة في وجودها بذلك الشيء وبصورة كيف كانت تصدر عنه فيها، فلا تعدم بعدم الصورة، إذ الصورة لا تفارقها إلاّ لصورة أخرى تفعل مع العلة - التي عنها مبدأ وجود المادة - ما كانت تفعله الصورة الأولى. فيما أن هذا الثاني يشارك الأول في أنه صورة، يشاركه في أنه يعاونه على إقامة هذه المادة، وبما يخالفه يجعل المادة بالفعل جوهراً غير الجوهر الذي كان يفعله الأول. فكثير من الأمور الموجودة إنما تتم بوجود شيئين، فإن الإضاءة والإنارة إنما تحصل بسبب مضيء، ومن كيفية لا بعينها تجعل الجسم منير قابلاً لأن ينفذ فيه الشعاع ولا ينعكس ثم تكون تلك الكيفية تقيم الشعاع على خاصية غير الخاصية التي تقيمه كيفية أخرى من الألوان.
الصفحة : 45
ويجب أن لا تناقش فيما لَفَظنا به من نفوذ الشعاع و انعكاسه، بعد أنك بالغرض بصير. ولا يبعد - إذا تأملت - أن تجد لهذا أمثلة أشد موافقة ولا يضرك أن لا تجد أيضاً مثالاً، فإنه ليس يجب أن يكون لكل شيء مثال. ولقائل أن يقول: إنه إن كان تعلق المادة بذلك الشيء وبصورة فيكون مجموعهما كالعلة له، وإذا أبطلت الصورة بطل هذا المجموع الذي هو العلة، فوجب أن يبطل المعلول. فنقول: إنه ليس تعلق المادة بذلك الشيء وبالصورة، من حيث الصورة صورة معينة بالنوع، بل من حيث هي صورة. وهذا المجموع ليس يبطل البتة، فإنه يكون دائماً موجوداً ذلك الشيء، والصورة من حيث هي صورة، فيكون لو لم يكن ذلك الشيء لم تكن المادة؛ ولو لم تكن الصورة من حيث هي صورة لم تكن المادة. ولو أبطلت الصورة الأولى لا بسبب تعقب الثاني لكان يكون ذلك الشيء المفارق وحده، ولا يكون الشيء الذي هو الصورة من حيث هو صورة. فكان يستحيل أن يفيض من ذلك الشيء وجود المادة، إذ هو وحده بلا شريك أو شريطة. ولقائل أن يقول: إن مجموع ذلك: العلة والصورة ليس واحداً بالعدد، بل واحد بمعنى عام، والواحد بالمعنى العام لا يكون علة للواحد بالعدد، ولمثل طبيعة المادة فإنها واحدة بالعدد. فنقول: إنا لا نمنع أن يكون الواحد بالمعنى العام المستحفظ وحده عمومه بواحد العدد علة الواحد بالعدد؛ وههنا كذلك، فإن الواحد بالنوع - مستحفظ بواحد العدد - هو المفارق. فيكون ذلك الشيء يوجب المادة، ولا يتم إيجابها إلاّ بأحد أمور تقارنه، أيها كانت. وأما هذا الشيء فستعلمه بعد. فالصور إما صور لا تفارقها المادة، وإما صور تفارقها المادة ولا تخلو المادة عن مثلها. فالصور التي تفارق المادة إلى عاقب، فإن معقبها فيها يستبقيها بتعقيب تلك الصورة، فتكون الصورة من وجه واسطة بين المادة المستبقاة وبين مستبقيها، والواسطة في التقويم، فإنه أولاً يتقوم ذاته، ثم يقوم به غيره أولية بالذات، وهي العلة القريبة من المستبقى في البقاء. فإن كانت تقوم بالعلة المبقية للمادة بواسطتها، فالقوام لها من الأوائل أولاً، ثم للمادة؛ وإن كانت قائمة لا بتلك العلة، بل بنفسها، ثم تقام المادة بها فذلك أظهر فيها. وأما الصور التي لا تفارقها المادة فلا يجوز أن تجعل معلولة للمادة حتى تكون المادة تقتضيها وتوجبها بنفسها، فتكون موجبة لوجود ما تستكمل به، فتكون من حيث تستكمل به قابلة، ومن حيث توجبه موجدة، فتكون توجب وجود شيء في نفسها تتصور به. لكن الشيء من حيث هو قابل، غيره من حيث
الصفحة : 46
هو موجب. فتكون المادة ذات أمرين: بأحدهما تستعد، وبالآخر يوجد عنها شيء. فيكون المستعد منهما هو جوهر المادة، وذلك الآخر أمراً زائداً على كونه مادة تقارنه وتوجب فيه أثراً كالطبيعة للحركة في المادة، فيكون ذلك الشيء هو الصورة الأولى، ويعود الكلام جذعاً. فإذن الصورة أقدم من الهيولي، ولا يجوز أن يقال إن الصورة بنفسها موجودة بالقوة دائماً، وإنما تصير بالفعل بالمادة، لأن جوهر الصورة هو الفعل. وأما طبيعة ما بالقوة فإن محلها المادة، فتكون المادة هي التي يصلح فيها أن يقال لها أنها في نفسها بالقوة تكون موجودة، وأنها بالفعل بالصورة، والصورة وإن كانت لا تفارق الهيولي فليست تتقوم بالهيولي، بل بالعلة المفيدة إياها الهيولي وكيف تتقوم الصورة بالهيولي وقد بينا أنها علتها؟ والعلة لا تتقوم بالمعلول، ولا شيئان اثنان يتقوم أحدهما بالآخر بأن كل واحد منهما يفيد الآخر وجوده. فقد بان استحالة هذا، وتبين لك الفرق بين الذي يتقوم به الشيء وبين الذي لا يفارقه. فالصورة لا توجد إلاّ في الهيولي، لا أن علة وجودها الهيولي، أو كونها في الهيولي. كما أن العلة لا توجد إلاّ مع المعلول، لا أن وجود العلة هو المعلول أو كونه مع المعلول؛ كما أن العلة إذا كانت علة بالفعل لزم عنها المعلول وأن تكون معها، كذلك الصورة إذا كانت صورة موجودة يلزم عنها أن تقوّم شيئاً؛ ذلك الشيء مقارن لذاتها. فكأن ما يقوّم شيئاً بالفعل، ويفيده الوجود، منه ما يفيده وهو مباين، ومنه ما يفيده وهو ملاق وإن لم يكن جزء منه مثل الجوهر للأعراض التي يلحقها أو يلزمها، والمزاجات. وبين بهذا أن كل صورة توجد في مادة مجسمة، فبعلة ما توجد؛ أما الحادثة فذلك ظاهر فيها، وأما الملازمة للمادة فلأن الهيولي الجسمانية إنما خصصت بها لعلة. وسنبين هذا أظهر في مواضع أخرى.
الصفحة : 47
المقالة الثالثة
وفيها عشر فصول
الفصل الأول: (أ)
فصل حال المقولات التسع في الإشارة إلى ما ينبغي أن يبحث عنه من حال المقولات التسع وفي عرضيتها.
فنقول: قد بينا ماهية الجوهر، وبينا أنها مقولة عن المفارق، وعلى الجسم، وعلى المادة، والصورة. فأما الجسم فإثباته مستغنى عنه، وأما المادة والصورة فقد أثبتناهما، وأما المفارق فقد أثبتناه بالقوة القريبة من الفعل، ونحن مثبتوه من بعد. وعلى أنك إن تذكرت ما قلناه في النفس، صحَّ لك وجود جوهر مفارق غير جسم، فبالحري أن تنتقل الآن إلى تحقيق الأعراض وإثباتها. فنقول: أما المقولات العشرة فقد تفهمت ماهياتها في افتتاح المنطق. ثم لا يشك في أن المضاف من جملتها - من حيث هو مضاف - أمر عارض لشيء ضرورةً. وكذلك النسب التي هي في "أين" و"متى" وفي "الوضع" وفي "الفعل" و"الإنفعال" فإنها أحوال عارضة لأشياء هي فيها، كالموجود في الموضوع. اللهم إلاّ أن يقول قائل: إن الفعل ليس كذلك، فإن وجود الفعل ليس في الفاعل، بل في المفعول. فإن قال ذلك، وسلم له، فليس يضر فيما ترومه من أن الفعل موجود في شيء وجوده في الموضوع، وإن كان ليس في الفاعل. فبقي من المقولات ما يقع فيه اشكال، وأنه هل هو عرض أو ليس بعرض، مقولتان: مقولة الكم، ومقولة الكيف. أما مقولة الكم، فكثير من الناس رأى أن يجعل الخط والسطح والمقدار الجسماني من الجوهر، وأن لا يقتصر على ذلك، بل يجعل هذه الأشياء مبادئ الجواهر. وبعضهم رأى ذلك في الكميات المنفصلة، أي الأعداد، وجعلها مبادىء الجواهر. وأما الكيف فقد رأى آخرون من الطبيعيين أنها ليست محمولة البتة، بل اللون جوهر بنفسه، والطعم جوهر آخر، والرائحة جوهر آخر، وأن من هذه قوام الجواهر المحسوسة، وأكثر أصحاب الكمون ذاهبون إلى هذا.
الصفحة : 48
فأما شكوك أصحاب القول بجوهرية الكيف، فالأحرى بها أن تورد في العلم الطبيعي، وكأنا قد فعلنا ذلك. وأما أصحاب القول بجوهرية الكم، فمن ذهب إلى أن المتصلات هي جواهر ومبادئ للجواهر فقد قال: إن هذه هي الأبعاد المقومة للجوهر الجسماني، وما هو مقوم للشيء فهو أقدم، وما أقدم من الجواهر فهو أولى بالجوهرية، وجعل النقطة أولى الثلاثة بالجوهرية. وأما أصحاب العدد، فإنهم جعلوا هذه مبادئ الجواهر، إلاّ أنهم جعلوها مؤلفة من الوحدات حتى صارت الوحدات مبادئ للمبادئ، ثم قالوا: إن الوحدة طبيعة غير متعلقة في ذاتها بشيء من الأشياء، وذلك لأن الوحدة تكون في كل شيء، وتكون الوحدة في ذلك الشيء غير ماهية ذلك الشيء، فإن الوحدة في الماء غير الماء، وفي الناس غير الناس، ثم هي بما هي وحدة مستغنية عن أن تكون شيئاً من الأشياء، وكل شيء فإنما يصير هو ما هو بأن يكون واحداً متعيناً، فتكون الوحدة مبدأ للخط وللسطح ولكل شيء، فإن السطح لا يكون سطحاً إلاّ بوحدة اتصالها الخاص، وكذلك الخط والنقطة أيضاً وحدة صار لها وضع. فالوحدة علة كل شيء. وأول ما يكون ويحدث عن الوحدة العدد. فالعدد هو علة متوسطة بين الوحدة وبين كل شيء، فالنقطة وحدة وضعية، والخط اثنوية وضعية، والسطح ثلاثية وضعية، والجسم رباعية وضعية؛ ثم تدرجوا إلى أن جعلوا كل شيء حادثاً عن العدد. فيجب علينا أولاً أن نبين: أن المقادير والأعداد أعراض، ثم نشتغل بعد ذلك بحل الشكوك التي لهؤلاء. وقبل ذلك يجب أن نعرف حقيقة أنواع الكمية، والأولى بنا أن نعرف طبيعة الوحدة، فإنه يحق علينا أن نعرف طبيعة الواحد في هذا الموضوع بشيئين: أحدهما، أن الواحد شديد المناسبة للموجود الذي هو موضوع هذا العلم؛ والثاني، أن الواحد مبدأ ما بوجه ما للكمية. أما كونه مبدأ للعدد، فأمر قريب من المتأمل. وأما للمتصل فلأن الإتصال وحدة ما، وكأنه علة صورية للمتصل، ولأن المقدار كونه مقداراً هو أنه بحيث يقدر، وكونه بحيث يقدر هو كونه بحيث يعد، وكونه بحيث يعد كونه بحيث أن له واحداً.
الفصل الثاني (ب)
الصفحة : 49
فصل في الكلام في الواحد فنقول: إن الواحد يقال بالتشكيك على معان تتفق في أنها لا قسمة فيها بالفعل من حيث كل واحد هو هو، لكن هذا المعنى يوجد فيها بتقدم وتأخر، وذلك بعد الواحد بالعرض. والواحد بالعرض هو أن يقال في شيء يقارن شيئاً آخر، أنه هو الآخر، وأنهما واحد. وذلك إما موضوع ومحمول عرضي، كقولنا: إن زيداً وابن عبد الله واحد، وإن زيداً والطبيب واحد؛ وإما محمولان موضوع، كقولنا: الطبيب هو وابن عبد الله واحد، إذ عرض أن كان شيء واحد طبيباً وابن عبد الله؛ أو موضوعان في محمول واحد عرضي، كقولنا: الثلج والجص واحد، أي في البياض، إذ قد عرض أن حمل عليهما عرض واحد. لكن الواحد الذي بالذات، منه واحد بالجنس، ومنه واحد بالنوع وهو الواحد بالفصل، ومنه واحد بالمناسبة، ومنه واحد بالموضوع، ومنه واحد بالعدد. والواحد بالعدد قد يكون بالإتصال، وقد يكون بالتماس، وقد يكون لأجل نوعه، وقد يكون لأجل ذاته. والواحد بالجنس قد يكون بالجنس القريب، وقد يكون بالجنس البعيد. والواحد بالنوع كذلك قد يكون بنوع قريب لا يتجزأ إلى أنواع، وقد يكون بنوع بعيد فيوافق أحد قسمي الباب الأول، وإن كان هناك اختلاف في الإعتبار. وإذا كان واحد بالنوع فهو لا محالة واحد بالفصل، ومعلوم أن الواحد بالجنس كثير بالنوع، وأن الواحد بالنوع قد يجوز أن يكون كثيراً بالعدد، وقد يجوز أن لا يكون إذا كانت طبيعة النوع كلها في شخص واحد، فيكون من جهة نوعاً ومن جهة لا يكون نوعاً، إذ هو من جهة كلي ومن جهة ليس بكلي. وتأمل في هذا الوضع الذي نتكلم فيه على الكلي، أو تذكر مواضع سلفت لك. وأما الواحد بالإتصال فهو الذي يكون واحداً بالفعل من جهة، وفيه كثرة أيضاً من جهة. أما الحقيقي فهو الذي تكون فيه الكثرة بالقوة فقط، وهو إما في الخطوط: فالذي لا زاوية له، وفي السطوح أيضاً: البسيط المسطح، وفي المجسمات: الجسم الذي يحيط به سطح ليس فيه انفراج على زاوية؛ ويليه ما يكون فيه كثرة بالفعل إلاّ أن أطرافها تلتقي عد حد مشترك مثل جملة الخطين المحيطين بالزاوية، ويليه أن تكون الأطراف متماسة تماساً يشبه المتصل في تلازم حركة بعضها لبعض فتكون وحدتها كأنها تابعة لوحدة الحركة لأن هناك التحاماً، وذلك كالأعضاء المؤلفة من أعضاء، وأولى ذلك ما كان التحامه طبيعياً لا صناعياً.
الصفحة : 50
والوحدة بالجملة في هذه أضعف، وتخرج عن الوحدة الإتصالية إلى الوحدة الاجتماعية. فالوحدة الإتصالية أولى من الاجتماعية بمعنى الوحدة، وذلك أن الوحدة الإتصالية لا كثرة فيها بالفعل، والوحدة الاجتماعية فيها كثرة بالفعل. فهناك كثرة غشيتها وحدة لا تزيل عنها الكثرية. والوحدة بالإتصال إما معتبرة مع المقدار فقط وإما أن تكون مع طبيعة أخرى مثل أن تكون ماء أو هواء. ويعرض للواحد بالإتصال أن يكون واحداً في الموضوع، فإن الموضوع المتصل بالحقيقة جسم بسيط متفق الطبع، وقد علمت هذا في الطبيعيات. فيكون موضوع وحدة الإتصال واحداً أيضاً في الطبيعة من حيث أن طبيعته لا تنقسم إلى صور مختلفة؛ بل نقول: إن الواحد بالعدد لا شك أنه غير منقسم بالعدد من حيث هو واحد، بل ولا غيره مما هو واحد منقسم من حيث هو واحد، لكنه يجب أن ينظر فيه من حيث الطبيعة التي عرض لها الوحدة، فيكون الواحد بالعدد منه ما ليس من طبيعته التي عرض لها الوحدة أن يتكثر مثل: الإنسان الواحد، ومنه ما من طبيعته ذلك كالماء الواحد والخط الواحد فإنه قد يصير الماء مياهاً والخط خطوطاً. والذي ليس من طبيعته ذلك فإما أن يكون قد يتكثر من وجه آخر، وإما أن لا يكون. مثال الأول: الواحد بالعدد من الناس، فإنه لا يتكثر من حيث طبيعته، أي من حيث هو إنسان إذا قسم، لكنه قد يتكثر من جهة أخرى إذا قسم إلى نفس وبدن، فيكون له نفس وبدن وليس واحد منهما بإنسان. وأما الذي لا يكون فهو على قسمين: إما أن يكون موجوداً له - مع أنه شيء ليس بمنقسم - طبيعة أخرى، وإما أن لا يكون. فإن كان موجوداً له مع ذلك طبيعة أخرى فإما أن تكون تلك الطبيعة هي الوضع وما يناسب الوضع، فتكون نقطة والنقطة لا منقسمة من حيث هي نقطة ولا من جهة أخرى، وهناك طبيعة غير الوحدة المذكورة؛ وإما أن لا يكون الوضع وما يناسبه، فيكون مثل العقل والنفس، فإن العقل له وجود غير الذي يفهم من أنه لا ينقسم، وليس ذلك الوجود بوضع، وليس ينقسم في طبيعته ولا في جهة أخرى. وأما الذي لا يكون هناك طبيعة أخرى فكنفس الوحدة التي هي مبدأ العدد، أعني التي إذا أضيف إليها غيرها صار مجموعهما عدداً. فمن هذه الأصناف من الوحدة ما لا ينقسم مفهومه في الذهن، فضلاً عن قسمة مادية أو مكانية أو زمانية. ولنعد القسم الذي يتكثر أيضاً من حيث الطبيعة الواحدة بالوحدة ومن حيث الاتصال، فمن ذلك أن يكون تكثره في الطبيعة التي هي لذاتها معدة لكثرة عن الوحدة، وهذا هو المقدار؛ ومن ذلك أن يكون تكثره في طبيعة إنما لها الوحدة المعدة للتكثر بسبب غير نفسها، وذلك هو الجسم البسيط مثل الماء. فإن هذا الماء واحد بالعدد وهو ماء وفي قوته أن يصير مياهاً كثيرة بالعدد لا لأجل المائية، بل لمقارنة السبب
الصفحة : 51
الذي هو المقدار. فتكون تلك المياه الكثيرة بالعدد واحدة بالنوع وواحدة أيضاً بالموضوع، لأن من طبع موضوعها أن تتحد بالفعل واحداً بالعدد. ولا كذلك أشخاص الناس، فإنها ليس من شأن عدة موضوعات منها أن يتحد موضوع إنسان واحد نعم كل واحد منهما واحد بموضوعه الواحد، ولكن ليس المجتمع من الكثرة واحداً بالموضوع، وليس حاله حال كل قطعة من الماء، فإنها واحدة في نفسها بموضوعها. والجملة يقال إنها واحدة في الموضوع، إذ من شأن موضوعاتها أن تتحد موضوعاً واحداً بالإتصال، فيكون جملتها حينئذ ماء واحداً. لكن كل واحد من هذين القسمين إما أن يكون حاصلاً فيه جميع ما يمكن أن يكون له أو لا يكون، فإن كان فهو تام وواحد بالتمام، وإن لم يكن فهو كثير، ومن عادة الناس أن يجعلوا الكثير غير الواحد. وهذه الوحدة التمامية إما أن تكون بالفرض والوهم والوضع كدرهم تام ودينار تام، وإما أن تكون بالحقيقة. وذلك إما بالصناعة كالبيت التام، فإن البيت الناقص لا يقال له بيت واحد. وإما بالطبيعة كشخص إنسان واحد تام الأعضاء. ولأن الخط المستقيم قد يقبل زيادة في استقامته ليس موجودة له، فليس بواحد من جهة التمام. وأما المستدير فإذ ليس يقبلها، بل حصلت له بالطبع الإحاطة بالمركز من كل جهة، فهو تام وواحد بالتمام، ويشبه أن يكون أيضاً كل شخص من الناس واحداً من هذه الجهة، فيكون بعض الأشياء يلزمه التمام كالأشخاص والخط المستدير، وبعضها لا يلزمه التمام كالماء والخط المستقيم. وأما الواحد بالمساواة فهو بمناسبة ما، مثل أن حال السفن عند الربان وحال المدينة عند الملك واحدة، فإن هاتين حالتان متفقتان، وليس وحدتهما بالعرض، بل وحدة ما يتحد بهما بالعرض، أعني وحدة السفينة والمدينة بهما هي وحدة بالعرض. وأما وحدة الحالتين فليست الوحدة التي جعلناها وحدة بالعرض. فتقول من رأس: إنه إذا كانت الوحدة إما أن تقال على أشياء كثيرة بالعدد، أو تقال على شيء واحد بالعدد، وقد بينا أنا حصرنا أقسام الواحد بالعدد. فلنمل إلى الحيثية الأخرى، فنقول: وأما الأشياء الكثيرة بالعدد فإنما يقال لها من جهة أخرى واحدة لإتفاق بينها في معنى. فإما أن يكون اتفاقها في نسبة أو محمول غير النسبة، وأما في موضوع. والمحمول إما جنس، وإما نوع، وإما فصل، وإما عرض، فيكون سهلاً عليك من هذا الموضوع أن
الصفحة : 52
تعرف أنا حققنا أقسام الواحد، وأنت تعرف مما قد عرفت أيها أولى بالوحدة واسبق استحقاقاً لها، فتعرف أن الواحد بالجنس أولى بالوحدة من الواحد بالمناسبة، وأن الواحد بالنوع أولى من الواحد بالجنس، والواحد بالعدد أولى من الواحد بالنوع، والبسيط الذي لا ينقسم بوجه أولى من المركب، والتام من الذي ينقسم أولى من الناقص. والواحد قد يطابق الموجود في أن الواحد قد يقال على كل واحد من المقولات كالموجود، لكن مفهومهما - على ما علمت - مختلف، ويتفقان في أنه لا يدل واحد منهما على جوهر بشيء من الأشياء، وقد علمت ذلك.
الفصل الثالث (ج)
فصل في تحقيق الواحد والكثير وإبانة أن العدد عرض والذي يصعب علينا تحقيقه الآن ماهية الواحد.
وذلك أنا إذا قلنا: إن الواحد هو الذي لا يتكثر ضرورة، فأخذنا في بيان الواحد الكثرة. وأما الكثرة فمن الضروري أن تُحد بالواحد، لأن الواحد مبدأ الكثرة، ومنه وجودها وماهيتها، ثم أي حد حددنا به الكثرة استعملنا فيه الواحد بالضرورة. فمن ذلك ما تقول: إن الكثرة هي المجتمع من وحدات، فقد أخذنا الوحدة في حد الكثرة، ثم عملنا شيئاً آخر وهو أنا أخذنا المجتمع في حدها، والمجتمع يشبه أن يكون هو الكثرة نفسها. وإذا قلنا من الوحدات أو الواحدات أو الآحاد فقد أوردنا بدل لفظ الجمع هذا اللفظ، ولا يفهم معناه ولا يعرف إلاّ بالكثرة. وإذا قلنا: إن الكثرة هي التي تعد بالواحد، فنكون قد أخذنا في حد الكثرة الوحدة، ونكون أيضاً قد أخذنا في حدها العد والتقدير، وذلك إنما يفهم بالكثرة أيضاً. فما أعسر علينا أن نقول في هذا الباب شيئاً يعتد به، لكنه يشبه أن تكون الكثرة أيضاً أعرف عند تخيلنا، والوحدة أعرف عند عقولنا، ويشبه أن تكون الوحدة والكثرة من الأمور التي نتصورها بدياً، لكن الكثرة نتخيلها أولاً، والوحدة نعقلها من غير مبدأ لتصورها عقلي، بل إن كان ولا بد فخيالي. ثم يكون تعريفنا الكثرة بالوحدة تعريفاً عقلياً، وهنالك تؤخذ الوحدة متصورة بذاتها ومن أوائل التصور، ويكون تعريفنا الوحدة بالكثرة تنبيهاً يستعمل فيه المذهب الخيالي لنومئ إلى معقول عندنا لا نتصوره حاضراً في الذهن.
الصفحة : 53
فإذا قالوا: إن الوحدة هي الشيء الذي ليس فيه كثرة دلّوا على ان المراد بهذه اللفظة الشيء المعقول عندنا بديهياً الذي يقابل هذا الآخر أو ليس هو فينبه عليه بسلب هذا عنه. والعجب ممن يحد العدد فيقول: إن العدد كثرة مؤلفة من وحدات أو من آحاد، والكثرة نفس العدد، ليس كالجنس للعدد، وحقيقة الكثرة أنها مؤلفة من وحدات. فقولهم: إن الكثرة مؤلفة من وحدات، كقولهم: إن الكثرة كثرة. فإن الكثرة ليست إلاّ إسماً للمؤلف من الوحدات. فإن قال قائل: إن الكثرة قد تؤلف من أشياء غير الوحدات مثل الناس، والدواب. فنقول: إنه كما أن هذه الأشياء ليست وحدات، بل أشياء موضوعة للوحدات، كذلك أيضاً ليست هي بكثرة، بل أشياء موضوعة للكثرة، وكما أن تلك الأشياء هي وحدات لا وحدات، فكذلك هي كثيرة لا كثرة. والذين يحسبون أنهم إذا قالوا: إن العدد كمية منفصلة ذات ترتيب، فقد تخلصوا من هذا، فما تخلصوا. فإن الكمية يحوج تصورها للنفس إلى أن تعرف بالجزء والقسمة أو المساواة. أما الجزء والقسمة فإنما يمكن تصورها بالكمية، وأما المساواة فإن الكمية أعرف منها عند العقل الصريح لأن المساواة من الأعراض الخاصة بالكمية التي يجب أن توجد في حدها الكمية. فيقال: إن المساواة هي اتحاد في الكمية والترتيب الذي أخذ في حد العدد أيضاً، وهو مما لا يفهم إلاّ بعد فهم العدد. فيجب أن يعلم أن هذه كلها تنبيهات مثل التنبيهات بالأمثلة والأسماء المترادفة، وأن هذه المعاني متصورة كلها أو بعضها لذواتها، وإنما يدل عليها بهذه الأشياء لينبه عليها وتميز فقط. فنقول الآن: إن الوحدة إما أن تقال على الأعراض، وإما أن تقال على الجواهر. فإذا قيلت على الأعراض فلا تكون جوهراً، ولا شك في ذلك، وإذا قيلت على الجواهر فليست تقال عليها كفصل ولا جنس البتة، إذ لا دخول لها في تحقيق ماهية جوهر من الجواهر، بل هو أمر لازم للجوهر، كما قد علمت. فلا يكون إذن قولها عليها قول الجنس والفصل، بل قول "عرضي". فيكون الواحد جوهراً، والوحدة هي المعنى الذي هو العرض، فإن العرض الذي هو أحد الخمسة - وإن كان كونه عرضاً بذلك المعنى - قد يجوز عليه أن يكون جوهراً، وإنما يجوز ذلك إذا أخذ مركباً، كالأبيض. وأما طبيعة المعنى البسيط منه فهي لا محالة عرض بالمعنى الآخر، إذ هو موجود في الجوهر وليس كجزء منه ولا يصح قوامه مفارقاً له. فلننظر الآن في الوحدة الموجودة في كل جوهر التي ليست بجزء منه مقومة له، هل يصح قوامها مفارقة للجوهر؟
الصفحة : 54
فنقول: إن هذا مستحيل، وذلك لأنها إن قامت وحدة مجردة لم يخل إما أن تكون مجرد أن لا تنقسم وليس هناك طبيعة هي المحمول عليها أن لا تنقسم، وأن تكون هناك طبيعة أخرى. والقسم الأول محال، فإنه لا أقل من أن يكون هناك وجود، ذلك الوجود لا ينقسم، فإن كان ذلك الوجود لا محالة معنى غير الوحدة وأنه لا ينقسم، فأما أن يكون ذلك الوجود جوهراً أو يكون عرضاً، فإن كان عرضاً فالوحدة في عرض لا محالة ثم في الجوهر، وإن كان جوهراً - والوحدة لا تفارقه - فهي موجودة فيه وجود ما في الموضوع، وإن كانت مفارقة، تكون الوحدة - إذا فارقت ذلك الجوهر - يكون لها جوهر آخر تصير إليه وتقارنه إذا فرض وجودها مقارنة لجوهرية، ويكون ذلك الجوهر - لو لم تصر إليه هذه الوحدة - لم تكن له وحدة، وهذا محال. أو تكون له وحدة كانت ووحدة لحقت، فتكون له وحدتان لا وحدة، فيكون جوهران لا جوهر واحد، لأن ذلك الجوهر واحدان، وهذا محال. وأيضاً فإن كانت كل وحدة في جوهر آخر، فأحد الجوهرين لم تنتقل إليه الوحدة وعاد الكلام جذعاً فيما انتقل إليه الوحدة وصار أيضاً جوهرين، وإن كانت كل وحدة في الجوهرين جميعاً فتكون الوحدة اثنوية، هذا خلف. فقد بان أن الوحدة ليس من شأنها أن تفارق الجوهر الذي هي فيه. ونبتدئ فنقول: إنه إن كانت الوحدة ليس مجرد أنها لا تنقسم، بل كانت وجوداً لا ينقسم حتى يكون الوجود داخلاً في الوحدة لا موضوعاً لها، فإذا فرضنا أنه قد فارقت هذه الوحدة الجوهر إن كانت يمكن أن توجد بذاتها كانت وجوداً لا ينقسم مجرداً ولم تكن وجوداً لا ينقسم فقط، بل تكون الوحدة وجوداً جوهرياً لا ينقسم إذا قام ذلك الوجود لا في موضوع. فلا تكون للأعراض وحدة بوجه من الوجوه. وإن كان للأعراض وحدة تكون وحدتها غير وحدة الجوهر؛ وتكون الوحدة تقال عليها باشتراك الإسم. فيكون أيضاً من الأعداد ما تأليفه من وحدة الأعراض، ومن الأعداد ما تأليفه من وحدة الجواهر فلننظر هل يشتركان في معنى الوجود الذي لا ينقسم أو لا يشتركان؟ فإن لم يشتركا فتكون الوحدة في أحديهما وجوداً منقسماً وفي الآخر ليس كذلك. ولسنا نعني بوحدة الأعراض أو الجواهر ذلك، حتى نعني في أحديهما بالوحدة شيئاً غير أنه وجود غير منقسم. وإن اشتركا في ذلك المعنى، فذلك المعنى هو الوجود الغير منقسم الذي إياه نعني بالوحدة؛ وذلك المعنى أعم من المعنى الذي ذكرناه قبيل الآن، فإن ذلك كان يلزمه مع كونه وجوداً لا ينقسم، أن يكون وجوداً جوهرياً، إذ قد كان يمكن فرضه مجرداً، وذلك المعنى لا محالة إن كان جوهراً لم يعرض للعرض، وليس يلزم أن نقول إنه إن كان عرضاً لم يعرض للجوهر، فإن الجوهر يعرض له العرض ويقوم به العرض، والعرض لا يعرض له الجوهر حتى يكون
الصفحة : 55
قائماً فيه. فإذن الوحدة الجامعة أعم من ذلك المعنى وكلامنا فيها، ومن حيث هي وجود لا ينقسم فقط بلا زيادة أخرى وذلك لا يفارق موضوعاته وإلاّ صار ذلك المعنى الأخص. فإنه من المحال أن تكون الوحدة وجوداً غير منقسم في الأعراض والجواهر ويجوز مع ذلك أن تفارق، فيكون جوهرا عرض لعرض، أو أن تكون الوحدة مختلفة في الجواهر والأعراض. فبين أن الوحدة حقيقتها معنى عرضي ومن جملة اللوازم للأشياء. وليس لقائل أن يقول: إن هذه الوحدة إنما لا تفارق على سبيل ما لا تفارق المعاني العامة قائمة دون فصولها، كما لا تفارق الإنسانية الحيوانية. وامتناع هذه المفارقة لا يوجب العرضية، بل إنما يوجب العرضية امتناع مفارقة يكون للمعنى المّحصل الموجود المشخّص. فنقول: ليس الأمر كذلك، فإن نسبة ما فرضناه أعم إلى ما فرضناه أخص ليس نسبة المنقسم إليه بفصل مقوم. فقد بينا أن الوحدة غير داخلة في حد جوهر أو عرض، بل نسبة لازم عام. وإذا أشرنا إلى بسيط واحد منه كان متميز الذات عن التخصيص الذي يقارنه، لا كاللونية التي في البياض، فإذا صح أنه غير مفارق صح أن المحمول الذي هو معنى لازم عام مشتق الإسم من إسم معنى بسيط هو معنى الوحدة، وذلك البسيط عرض. وإذا كانت الوحدة عرضاً، فالعدد المؤلف من الوحدة عرض.
الفصل الرابع (د)
الصفحة : 56
فصل في أن المقادير أعراض وأما الكميات المتصلة فهي مقادير المتصلات، أما الجسم الذي هو الكم فهو مقدار المتصل الذي هو الجسم بمعنى الصورة، على ما عرفته في عدة مواضع، وأما الجسم بالمعنى الآخر الداخل في مقولة الجوهر فقد فرغنا منه. وهذا المقدار فقد بان أنه في مادة، وأنه يزيد وينقص والجوهر باق، فهو عرض لا محالة، ولكنه من الأعراض التي تتعلق بالمادة وبشيء من المادة، لأن هذا المقدار لا يفارق المادة إلاّ بالتوهم، ولا يفارق الصورة التي للمادة، لأنه مقدار الشيء المتصل الذي يقبل أبعاد كذا، وهذا لا يمكن أن يكون بلا هذا الشيء المتصل كما أن الزمان لا يكون إلاّ بالمتصل الذي هو المسافة وهذا المقدار هو كون المتصل بحيث يمسح بكذا كذا مرة، أو لا ينتهي المسح إن توهم غير متناه توهماً. وهذا مخالف لكون الشيء بحيث يقبل فرض الأبعاد المذكورة، فإن ذلك لا يختلف فيه جسم وجسم. وأما أنه يمسح بكذا كذا مرة، أنه لا يغني مسحه بكذا البتة، فقد يختلف فيه جسم وجسم. فهذا المعنى هو كمية الجسم، وذلك صورته. وهذه الكمية لا تفارق تلك الصورة في الوهم البتة، لكن هي والصورة تفارقان المادة في الوهم. وأما السطح والخط فبالحري أن يكون له اعتبار أنه نهاية، واعتبار له مقدار؛ وأيضاً للسطح اعتبار أنه يقبل فرض بعدين فيه على صفة الأبعاد المذكورة، أعني بُعدين فقط يتقاطعان على زاوية قائمة؛ وأيضاً أنه يقدر ويمسح، ويكون أعظم وأصغر؛ وأنه يفرض فيه أيضاً أبعاد بحسب اختلاف الأشكال. فلنتأمل هذه الأحوال فيه فنقول: أما قبوله بفرض بعدين فإنما ذلك له لأنه نهاية الجسم الذي هو قابل لفرض الأبعاد الثلاثة، فإن كون الشيء نهاية لقابل الثلاثة من حيث هو نهاية لمثل ذلك لا أنه نهاية مطلقاً، ومقتضاه أن يكون قابلاً لفرض بعدين، وليس هو بهذه الجهة مقدار، بل هو بهذه الجهة مضاف. وإن كان مضافاً لا يكون إلاّ مقداراً، وقد عرفت الفرق بين المضاف مطلقاً وبين المضاف الذي هو المقولة التي لا تجوز، على ما بينا أن يكون مقداراً أو كيفاً. وأما أنه مقدار فهو بالجهة الأخرى التي بها يمكن أن يخالف غيره من السطوح في القدر والمساحة ولا يمكن أن يخالفها بالمعنى الأول بوجه؛ لكنه من الجهتين جميعاً عرض، فإنه من حيث هو نهاية عارض للمتناهي، لأنه موجود فيه كجزء منه ولا يقوم دونه، وقد قلنا إنه ليس من شرط الموجود في شيء أن يطابق ذاته، وأما أين قلنا هذا ففي الطبيعيات، فليتأمل هناك إن عرضت من هذه الجهة شبهة.

الصفحة : 57
وأيضاً من حيث هو مقدار هو عرض، ولو كان كون السطح بحيث يفرض فيه بعدان أمراً له في نفسه لم تكن نسبة المقدارية في السطح إلاّ ذلك الأمر نسبة المقدارية إلى الصورة الجسمية، بل تكون نسبة ذلك المعنى إلى المقدارية في السطح نسبة فصل إلى جنس، والنسبة الأخرى نسبة عارض إلى صورة. وأنت تعلم هذا بتأمل الأصول. وأعلم أن السطح لعرضيته ما يحدث ويبطل في الجسم بالإتصال والإنفصال واختلاف الأشكال والتقاطيع، وقد يكون سطح الجسم مسطحاً، فيبطل من حيث هو مسطح، فيحدث مستدير. وقد علمت فيما سلف من الأقاويل أن السطح الواحد بالحقيقة لا يكون موضوعاً للكرية والتسطيح في الوجود، ولذلك ليس كما أن الجسم الواحد يكون موضوعاً لاختلاف أبعاد بالفعل تترادف عليه فكذلك السطح إذا أزيل عن شكله حتى تبطل أبعاده فلا يمكن ذلك إلاّ بقطعه. وفي القطع إبطال صورة السطح الواحدة التي بالفعل؛ وقد علمت هذا من أقوال أخرى، وعلمت أن هذا لا يلزم في الهيولي حتى تكون الهيولي للإتصال غيرها للإنفصال، وقد علمت أنه إذا ألّفَت سطوح وَوُصلَ بعضها ببعض تأليفاً يبطل الحدود المشتركة كان الكائن سطحاً آخر بالعدد، ولو أعيد إلى تأليفه الأول لم يكن ذلك السطح الأول بالعدد بل آخر مثله بالعدد، وذلك لأن المعدوم لا يعاد. وإذا قد عرفت صورة الحال في السطح فقد عرفت في الخط فاجعله قياساً عليه. فقد تبين لك أن هذه أعراض لا تفارق المادة وجوداً، وعرفت أيضاً أنها لا تفارق الصورة التي هي في طباعها مادية توهماً أيضاً. فقد بقي أن تعلم كيف ينبغي أن يفهم قولنا: إن السطح يفارق الجسم توهماً، وإن الخط يفارق السطح توهماً. فنقول: إن هذه المفارقة تفهم في هذا الموضوع على وجهين: أحدهما أن نفرض في الوهم سطح ولا جسم، وخط ولا سطح، والآخر أن يلتفت إلى السطح ولا يلتفت إلى الجسم أصلاً أنه معه أو ليس معه. وأنت تعرف أن الفرق بين الأمرين ظاهر، فإنه فرق بين أن ينظر إلى الشيء وحده وإن كان معتقداً أنه مع غيره لا يفارقه، وبين أن ينظر إليه وحده مع شرط مفارقته ما هو معه، محكوماً عليه بأنه كما التفت إليه وحده حتى يكون هو في وهمك قائم وحده. فهو مع ذلك يفرق بينه وبين الشيء الآخر محكوماً بأن ذلك الشيء ليس معه. فمن ظن أن السطح والخط والنقطة قد يمكن أن يتوهم سطحاً وخطاً ونقطة مع فرض أن لا جسم مع السطح ولا مع الخط ولا مع النقطة فقد ظن باطلاً، وذلك لأنه لا يمكن أن يفرض السطح في الوهم

الصفحة : 58
مفرداً ليس نهاية لشيء إلاّ أن يتوهم مع وضع خاص ويتوهم له جهتان توصلان الصائر إليه إيصالاً يلقى جانبين غيرين، كما علمت. فيكون حينئذ ما توهم سطحاً غير سطح. فإن السطح هو نفس الحد لا ذو حدين، وإن توهم السطح نفس النهاية التي تلي جهة واحدة فقط من حيث هو كذلك أو نفس الجهة، الحد - على ان لا انفصال له من جهة أخرى - كان ما هو نهايته متوهماً معه بوجه ما، وكذلك الحال في الخط والنقطة. والذي يقال أن النقطة ترسم بحركتها الخط فإنه أمر يقال للتخيل، ولا إمكان وجود له، لا لأن النقطة لا يمكن أن تفرض لها مماسة متنقلة، فإنا قد بينا أن ذلك ممكن فيها بوجه، لكن المماسة لما كانت لا تثبت وكان لا يبقى الشيء بعد المماسة إلاّ كما كان قبل المماسة، فلا تكون هناك نقطة بقيت مبدأ خط بعد المماسة ولا يبقى امتداد بينها وبين أجزاء المماسة، لأن تلك النقطة إنما صارت نقطة واحدة على ما علمت في الطبيعيات بالمماسة لا غير، فإذا بطلت المماسة بالحركة فكيف تبقى هي نقطة؟ وكذلك كيف يبقى ما هي مبدأ له رسماً ثابتاً؟ بل إنما ذلك في الوهم والتخيل فقط. وأيضاً فإن حركتها تكون لا محالة، وهناك شيء موجود تكون الحركة عليه أو فيه، وذلك الشيء قابل لأن يتحرك فيه فهو جسم أو سطح أو بُعد هو خط، فتكون هذه الأشياء موجودة قبل حركة النقطة، فلا تكون حركة النقطة علة لأن توجد هي. فأما وجود المقدار الجسماني فظاهر، وأما وجود السطح فلوجوب تناهي المقدار الجسماني، وأما وجود الخط فبسبب جواز قطع السطوح وافتراض الحدود لها. وأما الزاوية فقد ظن بها أنها كمية متصلة غير السطح والجسم، فينبغي أن ينظر في أمرها، فنقول: إن المقدار جسماً كان أو سطحاً فقد يعرض له أن يكون محاطاً بين نهايات تلتقي عند نقطة واحدة، فيكون من حيث هو بين هذه النهايات شيئاً ذا زاوية من غير أن ينظر إلى حال نهاياته من جهة فكأنه مقدار أكثر من بعد ينتهي عند نقطة، فإن شئت سميت نفس هذا المقدار من حيث هو كذلك زاوية، وإن شئت سميت الكيفية التي له من حيث هو هكذا زاوية؛ فيكون الأول كالمربع والثاني كالتربيع. فإن أو قعت الإسم على المعنى الأول قلت: زاوية مساوية وناقصة وزائدة لنفسها، لأن جوهرها مقدار، وإن أوقعت على المعنى الثاني قلت لها بسبب المقدار الذي هي فيه كما للتربيع، ولأن هذا الذي هو الزاوية بالمعنى الأول يمكن أن يفرض فيه إما أبعاد ثلاثة أو بعدان، فهو مقدار جسم أو سطح. والذي يظنه من يقول: إنه إنما يكون سطحاً إذا تحرك الخط الفاعل إياه في الوهم بكلتي نقطتيه حتى أحدثه، حتى كان قد يحرك الطول عرضاً بالحقيقة فحدث عرض بعد الطول فكان طول وعرض؛ بل لم

الصفحة : 59
يتحرك الخط المحدث للزاوية لا في الطول وحده كما هو ولا العرض حتى يحدث سطح، وإنما تحرك بأحد رأسيه فحدثت الزاوية. فجعل الزاوية جنساً رابعاً من المقادير. والسبب في هذا جهله بمعنى قولنا: إن للشيء ثلاثة أبعاد أو بعدين حتى يكون مجسماً أو مسطحاً. فإذا عرفت ذلك عرفت أن هذا الذي قاله لا يلزم، ولا ينبغي أن يكون للعاقل إليه إصغاء، وإنما هو شروع من ذلك الإنسان قيماً لا يعنيه. وهذا الغافل الحيران قد يذهب إلى أن السطح بالحقيقة هو المربع أو المستطيل لا غير. وليس كلامه مما يفهم فضل شغل به. فقد عرفت وجود الأقدار وأنها أعراض وأنها ليست مبادئ للأجسام، إذ الغلط في ذلك إنما عرض لما عرفت. وأما الزمان فقد كان تحقق لك عرضيته وتعلقه بالحركة فيما سلف، فبقي أن تعلم أنه لا مقدار خارجاً عن هذه المقادير، فنقول: إن الكم المتصل لا يخلو إما أن يكون قاراً حاصل الوجود بجميع أجزائه، أو لا يكون، فإن لم يكن، بل كان متجدد الوجود شيئاً بعد شيء فهو الزمان. وإن كان قاراً وهو المقدار، فإما أن يكون أتم المقادير وهو الذي يمكن فيه فرض أبعاد ثلاثة، إذ ليس يمكن أن يفرض فيه فوق ذلك، وهذا هو المقدار المجسم، وإما أن يفرض فيه بعدان فقط، وإما أن يكون ذا بعد واحد فقط إذ كان متصل فله بُعد ما بالفعل أو بالقوة، ولما كان لا أكثر من ثلاثة ولا أقل من واحد فالمقادير ثلاثة والكميات المتصلة لذاتها أربعة. وقد يقال لأشياء أخر أنها كميات متصلة وليست كذلك. أما المكان فهو السطح، وأما الثقل والخفة فإنها توجب بحركاتها مقادير في الأزمنة والأمكنة، وليس لها في نفسها أن تجزأ بجزء يعدها، وأن تقابل بالمساواة والمفاوتة بأن يفرض لها حد ينطبق على حد ما يجانسه، حتى ينطبق ما يليه منه على ما يليه مما يجانسه، فينطبق عليه الحد الآخر فيساوي أو يختلف فلا يساوي، بل يفاوت، فإنا نعني بالمساواة والمفاوتة المعترفتين للمقدار هذا المعنى، وأما التجزئة التي تعرض للخفة والثقل بأن يكون ثقل نصف ثقل فإن ذلك لأنه يتحرك في الزمان نصف المسافة، أو في المسافة ضعف الزمان، أو تحرك الأعظم إلى أسفل في آلة حركة يلزم معها أن يتحرك الأصغر إلى العلو أو أمر مما يجري هذا المجرى. فهو كالحرارة التي تكون ضعف الحرارة لأجل أنها تفعل في الضعف أو لأنها في ضعف الجسم الحار المتشابه في الحرارة. وكذلك حال الصغير والكبير والكثير والقليل فإن هذه أعراض أيضاً تلحق بالكميات من باب المضاف، وأنت قد حصلت الكلام في جميع هذه في موضع آخر.
الصفحة : 60
فالكمية بالجملة حدها هي أنها التي يمكن أن يوجد فيها شيء منها يصح أن يكون واحداً عادّاً، وبكون ذلك لذاته سواء كانت الصحة وجودية أو فرضية.
الفصل الخامس (ه)
فصل في تحقيق ماهية العدد وتحديد أنواعه، وبيان أوائله.
وبالحري أن نحقق ههنا طبيعة الأعداد، وخاصياتها، وكيف يجب أن يتصور حالها ووجودها، فقد انتقلنا عنها إلى الكميات المتصلة مستعجلين، لأن غرضنا كان يوجب ذلك. فنقول: إن العدد له وجود في الأشياء، ووجود في النفس. وليس قول من قال: إن العدد لا وجود له إلاّ في النفس بشيء يعتد به، أما إن قال: إن العدد لا وجود له مجرداً عن المعدودات التي في الأعيان إلاّ في النفس، فهو حق. فإنا قد بينا أن الواحد لا يتجرد عن الأعيان قائماً بنفسه إلاّ في الذهن؛ فكذلك ما يترتب وجوده على وجود الواحد. وأما أن يكون في الموجودات أعداد فذلك أمر لا شك فيه إذا كان في الموجودات وحدات فوق واحدة، وكل واحد من الأعداد فإنه نوع بنفسه، هو واحد في نفسه من حيث هو ذلك النوع، وله من حيث هو ذلك النوع خواص. والشيء الذي لا حقيقة له محال أن تكون له خاصية الأولية أو التركيبية أو التمامية أو الزايدية أو الناقصية أو المربعية أو المكعبية أو الصمم وسائر الأشكال التي لها. فإذن لكل واحد من الأعداد حقيقة تخصه وصورة يتصور منها في النفس، وتلك الحقيقة وحدته التي بها هو ما هو. وليس العدد كثرة لا تجتمع في وحدة حتى يقال: أنه مجموع آحاد. فإنه من حيث هو مجموع هو واحد يحتمل خواص ليس لغيره. وليس بعجيب أن يكون الشيء واحداً من حيث له صورة ما كالعشرية مثلاً أو الثلاثية وله كثرة، فمن حيث العشرية ما هو بالخواص التي للعشرة، وأما لكثرته فليس له فيها إلاّ الخواص التي للكثرة المقابلة للوحدة، ولذلك فإن العشرة لا تنقسم في العشرية إلى عشرتين لكل واحدة منها خواص العشرية. وليس يجب أن يقال: إن العشرة ليس هي إلاّ تسعة وواحد، أو خمسة وخمسة، أو واحد وواحد وواحد كذلك إلى أن تنتهي إلى العشرة. فإن قولك: العشرة تسعة وواحد، قول حملت فيه التسعة على العشرة وعطفت عليه الواحد، فتكون كأنك قلت: إن العشرة أسود وحلو، فيجب أن تصدق عليه الصفتان المعطوفة إحداهما على الأخرى، فتكون العشرة تسعة وأيضاً واحداً. فإن لم ترد بالعطف تعريفاً، بل
الصفحة : 61
عنيت ما يقال: إن الإنسان حيوان وناطق، أي حيوان ذلك الحيوان الذي هو ناطق. تكون كأنك قلت: إن العشرة تسعة، تلك التسعة التي هي واحد، وهذا أيضاً مستحيل. وإن عنيت أن العشرة تسعة مع واحد، وكان مرادك أن العشرة هي التسعة التي تكون مع واحد، حتى إن كانت التسعة وحدها لم تكن عشرة، فإذا كانت مع الواحد كانت تلك التسعة عشرة، فقد أخطأت أيضاً. فإن التسعة إذا كانت وحدها أو مع أي شيء كان معها فإنها تكون تسعة ولا تكون عشرة البتة. فإن لم تجعل "مع" صفة للتسعة، بل الموصوف لها، فتكون كأنك قلت: إن العشرة تسعة، ومع كونها تسعة هي أيضاً واحد، فذلك أيضاً خطأ، بل هذا كله مجاز من اللفظ مغلط، بل العشرة مجموع التسعة والواحد إذا أخذا جميعاً فصار منهما شيء غيرهما. وحد كل واحد من الأعداد - إن أردت التحقيق - هو أن يقال: إنه عدد من اجتماع واحد وواحد وواحد، وتذكر الآحاد كلها. وذلك لأنه لا يخلو إما أن يحد بالعدد من غير أن يشار إلى تركيبه مما ركب منه، بل بخاصية من خواصه، فذلك يكون رسم ذلك العدد لا وحده من جوهره، وإما أن يشار إلى تركيبه مما ركب منه. فإن أشير إلى تركيبه من عددين دون الآخر مثلاً أن تجعل العشرةمن تركيب خمسة وخمسة لم يكن ذلك أولى من تركيب ستة مع أربعة، وليس تعلق هويته بأحدهما أولى من الآخر. وهو بما هو عشرة ماهية واحدة، ومحال أن تكون ماهية واحدة، وما يدل على ماهية من حيث هي واحدة حدود مختلفة. فإذا كان كذلك فحده ليس بهذا ولا بذاك، بل بما قلنا. ويكون - إذا كان ذلك كذلك - وقد كان له التركيب من خمسة وخمسة، ومن ستة وأربعة، ومن ثلاثة وسبعة، لازماً لذلك وتابعاً، فتكون هذه رسوماً له.على أن تحديدك بالخمسة يحوج إلى تحديد الخمسة فينحل ذلك كله إلى الآحاد وحينئذ يكون مفهوم قولك: إن العشرة من خمسة وخمسة، هو مفهوم قولك: من ثلاثة وسبعة، وثمانية واثنين، أعني إذا كنت تلحظ تلك الآحاد. فأما إذا لحظت صورة الخمسة والخمسة، والثلاثة والسبعة، كان كل اعتبار غير الآخر. وليس للذات الواحدة حقائق مختلفة المفهومات، بل إنما تتكثر لوازمها وعوارضها، ولهذا ما قال الفيلسوف المقدم: لا تحسبن أن الستة ثلاثة وثلاثة، بل هو ستة مرة واحدة. ولكن اعتبار العدد من حيث آحاده مما يصعب على التخيل وعلى العبارة فيصار إلى الرسوم. ومن الواجب، ومما يجب أن يبحث عنه من حال العدد حال الاثنوة. فقد قال بعضهم: إن الاثنوة ليست من العدد، وذلك لأن الاثنوة هي الزوج الأول، والوحدة هي الفرد الأول، وكما أن الوحدة التي هي الفرد الأول ليس بعدد، فكذلك الاثنوة التي هي الزوج الأول ليس بعدد. وقال: ولأن العدد كثرة مركبة من
الصفح :
الآحاد، والآحاد أقلها ثلاثة، ولأن الاثنوة لا تخلو إن كانت عدداً إما أن تكون مركبة أو لا تكون، فإن كانت مركبة فنعدها غير الواحد، وإن كانت عدداً أولاً فلا يخلو لها نصف. وأما أصحاب الحقيقة فلا يشتغلون بامثال هذه الأشياء بوجه من الوجوه، فإنه لم تكن الوحدة غير عدد لأجل أنها فرد أو زوج، بل لأنها لا انفصال فيها إلى وحدات. ولا إذا قالوا: مركبة من وحدات، يعنون بها ما يعنيه النحويون من لفظ الجمع وأن أقله ثلاثة بعد الإختلاف فيه، بل يعنون بذلك أكثر وأزيد من واحد. وقد جرت عادتهم بذلك، ولا يبالون أن لا يوجد زوج ليس بعدد، وإن وجد فرد ليس بعدد؛ فما فرض عليهم أن يدأبوا في طلب زوج ليس بعدد. وليسوا يشترطون في العدد الأول أن يكون لا نصف له مطلقاً، بل لا نصف له عدداً من حيث هو أول، وإنما يعنون بالأول أنه غير مركب من عدد. وإنما يعني بالعدد ما فيه من انفصال ويوجد فيه واحد، فالاثنوة أول العدد، وهو الغاية في القلة في العدد. وأما الكثرة في العدد فلا تنتهي إلى حد، وقلة الاثنوة ليست مما تقال بذاتها، بل بالقياس إلى العدد. وليس إذا لم تكن الاثنوة أكثر من شيء يجب من ذلك أن لا تكون قلتها بالقياس إلى غيرها، فليس يجب أن يكون ما يعرض له إضافة إلى شيء يلزم أن تكون له إضافة أخرى إلى شيء آخر يقارن تلك الإضافة، فإنه ليس يجب إذا كان شيء من الأشياء تعرض له إضافتان إضافة قلة وإضافة كثرة معاً - حتى يكون كما أنه قليل بالقياس إلى شيء فهو كثير بالقياس إلى شيء آخر - فيلزم من ذلك أن تكون كل قلة تعرض لشيء يعرض له معها الكثرة، كما أنه ليس إذا كان شيء هو مالكاً ومملوكاً يجب أن لا يكون شيء مالكاً وحده، أو شيء هو جنس ونوع يلزم أن لا يكون شيء هو جنس وحده، فإنه ليس إنما صار القليل قليلاً لأجل أن له شيئاً هو أيضاً عنده كثير، بل لأجل الشيء الذي ذلك الشيء بالقياس إليه كثير. فالاثنوة هي القلة الأقلة، أما قلة فبالقياس إلى كل عدد لأنها تنقص عن كل عدد، وأما الأقلة فلأنها ليست بكثير عند عدد، وإذا لم تقس الاثنوة إلى شيء آخر ولا تكون قليلة. والكثرة يفهمون منها معنيان: أحدهما أن يكون الشيء فيه من الآحاد فوق واحد، وهذا ليس بالقياس إلى شيء آخر البتة، والآخر أن يكون الشيء فيه ما في شيء آخر وزيادة، وهذا هو الذي بالقياس. وكذلك العظم والطول والعرض، فالكثرة مطلقة تقابل الوحدة مقابلة الشيء مع مبدئه الذي يكيله، والكثرة الأخرى تقابل القلة مقابلة المضاف، ولا تضاد بين الوحدة والكثرة بوجه من الوجوه، وكيف والوحدة
الصفحة : 63
تقوم الكثرة، ويجب أن نحقق القول في هذا.
الفصل السادس (و)
فصل في تقابل الواحد والكثير.
وبالحري أن نتأمل كيف تجري المقابلة بين الكثير والواحد، فقد كان التقابل عندنا على أصناف أربعة، وقد تحقق ذلك. وسنحقق بعد أيضاً أن صورة التقابل توجب أن تكون أصنافه على هذه الجملة، وكان من ذلك تقابل التضاد. وليس يمكن أن يكون التقابل بين الوحدة والكثرة على هذه الجملة، وذلك أن الوحدة مقوّمة للكثرة ولا شيء من الأضداد يقوم ضده، بل يبطله وينفيه. لكن لقائل أن يقول: إن الوحدة والكثرة هذا شأنهما، فإنه ليس يجب أن يقال: إن الضد يبطل الضد كيف كان، بل إن قال: إن الضد يبطل الضد بأن يحل في موضوعه، فالوحدة أيضاً من شأنها أن تبطل الكثرة بأن تحل الموضوع الذي للكثرة، على ما جوزت أن يكون الموضوع تعرض له الوحدة والكثرة. فنقول في جواب هذا الإنسان: أن الكثرة كما أنها إنما تحصل بالوحدة فكذلك الكثرة إنما تبطل ببطلان وحداتها، ولا تبطل الكثرة البتة لذاتها بطلاناً أولياً، بل يعرض لوحداتها أولاً أن تبطل، ثم يعرض لها أن تبطل معها لبطلان وحداتها. فتكون الوحدة إذا أبطلت الكثرة فليس بالقصد الأول تبطلها، بل إنما تبطل أولاً الوحدات التي للكثرة عن حالها بالفعل إلى أن تصير بالقوة، فيلزم أن لا تكون الكثرة. فإذن الوحدة إنما تبطل أولاً الوحدة على أنها ليست تبطل الوحدة كما تبطل الحرارة البرودة. فإن الوحدة لا تضاد الوحدة، بل على أن تلك الوحدات يعرض لها سبب مبطل بأن تحدث عنه هذه الوحدة وذلك ببطلان سطوح. فإن كان لأجل هذه المعاقبة التي على الموضوع يجب أن تكون الوحدة ضد الكثرة، فالأولى أن تكون الوحدة ضد الوحدة وعلى أن تكون الوحدة ليست تبطل الوحدة ابطال الحرارة للبرودة، لأن الوحدة الطارئة إذا أبطلت الوحدة الأولى أبطلتها عما ليس هو بعينه موضوع الوحدة الأخرى، بل الأحرى أن يظن أنه جزء موضوعه. وأما الكثرة فليست تبطل عن هذه الوحدة بطلاناً أولياً، بل ليس يكفي في شرط المتضادين أن يكون الموضوع واحد يتعاقبان فيه بل يجب أن تكون - مع هذا التعاقب - الطبائع متنافية متباعدة، ليس من شأن أحدهما أن يتقوم بالآخر للخلاف الذاتي فيهما وأن يكون تنافيهما أولياً.
الصفحة : 64
وأيضاً فلقائل أن يقول: إنه ليس موضوع الواحد والكثير واحداً، فإن شرط المتضادين أن يكون للاثنين منهما بالعدد موضوع واحد، وليس لوحدة بعينها وكثرة بعينها موضوع واحد بالعدد، بل في موضوع واحد بالنوع. وكيف يكون موضوع الوحدة والكثرة واحد بالعدد؟ ثم لا يخفى عليك أن تعلم مما سلف لك حقيقة هذا وما فيه وعليه وله، فقد ظهر وبان أن التقابل الذي بين الواحد والكثير ليس بتقابل التضاد. فلننظر هل التقابل بينهما تقابل الصورة والعدم؟ فنقول: أنه يلزم أول ذلك أن يكون العدم منهما عدم شيء من شأنه أن يكون للموضوع أو لنوعه أو لجنسه، على ما قد مضى لك من أمر العدم. ولك أن تتمحل وجهاً تجعل به الوحدة عدم الكثرة فيما من شأنه بنوعه أن يتكثر، وأن تتمحل وجهاً آخر تجعل به الكثر عدم للوحدة في أشياء في طبيعتها أن تتوحد. لكن الحق لا يجوز أن يكون شيئان كل واحد منهما عدم وملكة بالقياس إلى الآخر، بل الملكة منهما هو المعقول بنفسه الثابت بذاته، وأما العدم فهو أن لا يكون ذلك الشيء الذي هو المعقول بنفسه الثابت بذاته فيما من شأنه أن يكون، فيكون إنما يعقل ويحد بالملكة. وأما القدماء فقوم جعلوا هذا التقابل من العدم والملكة، وجعلوها هي المضادة الأولى، ورتبوا تحت الملكة والصورة: الخير والفرد والواحد والنهاية و اليمين والنور والساكن والمستقيم والمربع والعلم والذكر؛ وفي حيز العدم مقابلات هذه كالشر والزوج والكثرة واللانهاية واليسار والظلمة والمتحرك والمنحني والمستطيل والظن والأنثى. وأما نحن فقد يصعب علينا أن نجعل الملكة هي الوحدة ونجعل الكثرة هي العدم. أما أولاً، فإنا هو ذا نحد الوحدة بعدم الإنقسام أو عدم الجزء بالفعل، ونأخذ الإنقسام والتجزئة في حد الكثرة، وقد ذكرنا ما في هذا. وأما ثانياً، فإن الوحدة موجودة في الكثرة مقومة لها، وكيف تكون ماهية الملكة موجودة في العدم حتى يكون العدم يتألف من ملكات تجتمع؟ وكذلك إن كانت الملكة هي الكثرة فكيف يكون تركيب الملكة من أعدامها؟ فليس يجوز أن تجعل المقابلة بينهما مقابلة العدم والملكة. وإذ لا يجوز هذا فليس يجوز أن يقال: إن المقابلة بينهما هي مقابلة التناقض، لأن ما كان من ذلك في الألفاظ فهو خارج عن موافقة هذا الإعتبار، وما كان منه في الأمور العامة فهو من جنس تقابل العدم والملكة، بل هو جنس هذا التقابل. فإن بإزاء الموجبة الثبوت، وبإزاء السالبة العدم، ويعرض في ذلك من المحال ما يعرض فيما قلنا. فلننظر أنه: هل التقابل بينهما تقابل المضاف؟ فنقول: ليس يمكن أن يقال: إن بين الوحدة والكثرة في ذاتيهما تقابل المضاف، وذلك لأن الكثرة ليس
الصفحة : 65
إنما تعقل ماهيتها بالقياس إلى الوحدة حتى تكون إنما هي كثرة لأجل أن هناك وحدة، وإن كان إنما هي كثرة بسبب الوحدة. وقد علمت في كتب المنطق الفرق بين ما لا يكون إلاّ بشيء وبين ما لا تقال ماهيته إلاّ بالقياس إلى شيء. بل إنما تحتاج الكثرة إلى أن يفهم لها أنها من الوحدة، لأنها معلولة للوحدة في ذاتها، ومعنى أنها معلولة غير معنى أنها كثيرة، والإضافة لها إنما هي من حيث هي معلولة، والمعلولية لازمة للكثرة لا نفس الكثرة. ثم لو كانت من المضاف لكان كما تقال ماهيتها بالقياس إلى الوحدة لكان يقال ماهية الوحدة من حيث هي وحدة بالقياس إلى الكثرة على شرط انعكاس المضافين، ولكانا متكافئين في الوجود من حيث هذه وحدة وتلك كثرة، وليس الأمر كذلك. فإذا قد بان لك جميع هذا، فبالحري أن تجزم أن لا تقابل بينهما في ذاتيهما ولكن يلحقهما تقابل وهو: أن الوحدة من حيث هي مكيال تقابل الكثرة من حيث هي مكيل، وليس كون الشيء وحدة، وكونه مكيالاً، شيئاً واحداً بل بينهما فرق. والوحدة يعرض لها أن تكون مكيالاً، كما أنها يعرض لها أن تكون علة. ثم الأشياء يعرض لها - بسبب الوحدة التي توجد لها - أن تكون مكاييل، ولكن واحد كل شيء ومكياله هو من جنسه. فالواحد في الأطوال طول، وفي العروض عرض، وفي المجسمات مجسم، وفي الأزمنة زمان، وفي الحركات حركة، وفي الأوزان وزن، وفي الألفاظ لفظ، وفي الحروف حرف. وقد يجتهد أن يجعل الواحد في كل شيء أضغر مما يمكن ليكون التفاوت فيه أقل ما يكون، فبعض الأشياء يكون واحده مفترضاً بالطبع مثل: جوزة وبطيخة، وبعضها يفرض فيه واحد بالوضع. فما زاد على ذلك الواحد أخذ أكثر من الواحد، وما نقص منه لم يؤخذ واحداً، بل يكون الواحد هذا المفروض بتمامه، ويجعل هذا الواحد أيضاً من أظهر الأشياء في ذلك الجنس فالواحد مثلاً في الأطوال: شبر، وفي العروض مثلاً: شبر في شبر، وفي المجسمات: شبر في شبر في شبر، وفي الحركات: حركة مقدرة معلومة، ولا توجد حركة بهذه الصفة عامة للجميع إلاّ الحركات المتقدرة بالطبيعة، وخصوصاً التي لا تختلف، بل تمتد متفقة حتى تبقى واحدة في كل تقدير، وخصوصاً التي هي أقل مقدار حركة. فالأقل مقدار حركة هو الأقل زماناً، وهذا هو الحركة الفلكية السريعة جداً المضبوط قدرها، لأن الدور لا يزاد عليه، ولا ينقص المعلوم صغر مقدارها بسرعة العود ليس مما ينتظر تجدده إلى حين، بل في كل يوم وليلة نتم دورة قريبة إلى الموجود والتجديد وإلى التجزئة أيضاً بحركات الساعات. فتكون حركة ساعة واحدة مثلاً هي مكيال الحركات، وكذلك زمانها مكيال الأزمنة، وقد يفرض في الحركات حركة واحدة بحسب المسافات، إلاّ أن ذلك غير مستعمل وغير واقع موقع الفرض الأول.
الصفحة : 66
وأما في الأثقال فنفرض أيضاً ثقل درهم ودينار واحد أيضاً. وفي أبعاد الموسيقى إرخاء النغمة التي هي ربع طنيني أو ما يجري مجراها من الأبعاد الصغار ومن الأصوات الحرف المصوت المقصور، أو الحرف الساكن، أو مقطع مقصور. وليس يجب أن يكون كل واحد من هذه الأوضاع واقعاً بالضرورة، بل يقع بالفرض. ويمكن أن يفرض الواحد من كل باب ما هو أنقص وأزيد مما فرض، ومع هذا فليس يجب إذا كان في هذه الأشياء واحد منه مفروض أن يكال به جميع ما هو من ذلك الجنس، فإنه يجوز أن يكون الآخر مبايناً لكل ما كيل به أولاً. فههنا خط مباين لخط، وسطح مباين لسطح، وجسم مباين لجسم. وإذا كان الخط والسطح والجسم تُباين جسماً وسطحاً وخطاً، فكذلك الحركة قد تُباين الحركة. وإذا كان كذلك فالزمان والثقل أيضاً يباين الزمان والثقل أيضاً، ويجوز أن يكون لهذا الذي يباين ذلك مباين غير ذلك، وقد علمت جميع هذا في صناعة التعاليم. وإذا كان كذلك فستكون إذن الوحدات التي تفرض لكل جنس من هذه كثيرة وتكاد أن لا تتناهى. وإذا كان هناك واحد يصلح لكيل شيء فستكون أشياء تكاد لا تناهى لأن تكال به، ولما كان المكيال يعرف به المكيل، عد العلم والحس كالمكاييل للأشياء، فإنها تعلم بهما. فقال بعضهم: إن الإنسان يكيل كل شيء، لأنه بالعلم والحس، وبهما يدرك كل شيء. وبالحري أن كون العلم والحس مكيلين بالمعلوم والمحسوس، وأن يكون ذلك أصلاً له، لكنه قد يقع أن يكال المكيال أيضاً بالمكيل، فهكذا يجب أن يتصور الحال في مقابلة الوحدة والكثرة. وقد يشكل من حال الأعظم والأصغر أنهما كيف يتقابلان وكيف يقابلان المساواة. فإن المساوي يقابل كل واحد منهما، فإنه لا يجوز أن يكون المساوي والأعظم إلاّ متخالفين، وكذلك المساوي والأصغر، أما الأعظم والأصغر فإنهما إن تقابلا فمن المضاف، فكان هذا أعظم بالقياس إلى ما هو أصغر، فليس المساوي مضايفاً لأحدهما، بل لما هو مساو له. ويظن أنه ليس يجب حيث كان أعظم وأصغر أن يكون بينهما مساو موجود. فإن هذا قد علمته في موضع آخر. فإذا كان الأمر على هذا، فبالحري أن يكون المساوي ليست مقابلته الأولى للأعظم و الأصغر، بل لغير المساوي، وهو عدمه، مما شأنه أن تكون فيه المساواة. وليس عدمه في النقطة والوحدة واللون والعقل بأشياء لا تقدير لها، بل في أشياء لها تقدير وكمية.
الصفحة : 67
فالمساوي إنما يقابل عدمه وهو اللا مساواة، لكن اللا مساواة تلزم هذين أعني الأعظم والأصغر. كالجنس لست أعني أنه جنس، بل أعني أنه يلزم كل واحد منهما، فإن واحد منهما هو عظيم، والعظيمية معنى وجودي يلزمه هذا العدم، والآخر صغير، والصغيرية من تلك الحيثية كذلك.
الفصل السابع (ز)
فصل في أن الكيفيات أعراض.
فنتكلم الآن في الكيفيات. أما الكيفيات المحسوسة والجسمانية فلا يقع شك في وجودها، وقد تكلمنا أيضاً في وجودها في مواضع أخر، ونقضنا مشاغبات من تمارى في ذلك. لكنه إنما يقع الشك في أمرها، أنها هل هي أعراض أو ليست بأعراض. فإن من الناس من يرى أن تلك جواهر تخالط الأجسام وتسري فيها، فاللون بذاته جوهر، والحرارة كذلك، وكل واحد من هذه الأخر، فهي عنده بهذه المنزلة. وليس يقنعه أن هذه الأشياء توجد تارة وتعدم تارة، والشيء المشار إليه قائم موجود. فإنهم يقولون: إنه ليس يعدم ذلك، بل يأخذ يفارق قليلاً قليلاً، مثل الماء الذي يبتل به ثوب، فإنه بعد ساعة لا يوجد هناك ماء، ويكون الثوب موجوداً بحاله، ولا يصير الماء بذلك عرضاً، بل الماء جوهراً له أن يفارق جوهراً آخر لاقاه فربما فارق مفارقة لا يحس فيها بالأجزاء المفارقة منه، لأنها فارقت وهي أصغر مما يدركه الحس مفارقة مفترقة؛ ويقول بعضهم: إنها قد تكمن. فبالحري أن نبين أن ما يقولونه باطل، فنقول: لا يخلو إن كانت هذه الجواهر إما أن تكون جواهر هي أجسام، أو تكون جواهر ليس بأجسام. فإن كانت هذه جواهر غير جسمانية فإما أن تكون بحيث يمكن أن تؤلف منها أجسام، وهذا محال، إذ ما يتجزأ في أبعاد جسمانية فليس بالممكن أن يؤلف منه جسم؛ وإما أن لا يمكن، إنما يكون وجوده بالمقارنة للأجسام والسريان فيها. فأول ذلك لأنه لا يجوز لهذه الجواهر وضع، وكل جوهر ذي وضع فإنه منقسم، وقد بين ذلك. وثانياً، أنه لا يخلو إما أن يكون كل واحد من هذه الجواهر من شأنه أن يوجد مفارقاً للجسم الذي يكون فيه، أو لا يكون؛ فإن لم يكن يوجد مفارقاً، وكان وجوده في الأجسام على أنها موضوعات له، إذ ليست فيه كالأجزاء، ولا هي مفارقته، والجسم الموصوف بها مستكمل الجوهرية بنفسه، فليست إلاّ أعراضاً، وإنما لها اسم الجوهرية فقط. وإن كانت تفارق أجسامها فإما أن تكون مفارقة تنتقل بها من جسم إلى جسم من غير أن يصح لها قوام مجرد، أو تكون لها مفارقة قوام مجرد. فإن كانت إذا لم توجد في جسم وكانت فيه، فإنما يكون ذلك بأن ينتقل إلى الآخر، فيجب من
الصفحة : 68
ذلك أن يكون كل جسم فسد بياضه فقد انتقل بياضه إلى جسم يماسه، أو بقي مجرداً إلى أن يحصل في جسم بعيد، وهو غير مقارن جسماً في مدة قطع المسافة، وليس الأمر كذلك. وأما الكمون فقد فرغنا منه وبينا استحالته، فإنه يجب من ذلك أن يكون كل جسم يسخن جسماً فإنه ينقل إليه حرارة من نفسه، فيبرد هذا الذي يسخّن. ثم هذا النوع من الانتقال لا تبطل عرضيته، إذ كثير من الناس جوز في الأعراض أنفسها هذا الانتقال، أعني: الانتقال في أجزاء الموضوع، والانتقال من موضوع إلى موضوع؛ وإنما كان لا يكون عرضاً لو صح قوامه لا في موضوع. أما القائم في الموضوع إذا نظر فيه أنه هل يصح له أن ينتقل إلى موضوع آخر من غير أن يجرد عنهما، فهذا الاعتبار ليس يصح إلاّ بعد القوام في الموضوع. ثم هذا لا يصح البتة، لأنه يخلو إما أن يكون الذي وجد في موضوع ما تتعلق ذاته الشخصية بذلك الموضوع الشخصي، أو لا تتعلق؛ فإن كان تتعلق ذاته الشخصية بذلك الموضوع الشخصي فمعلوم أنه لا يجوز أن يبقى شخصه إلاّ في ذلك الموضوع الشخصي، وإن كان إنما أوجده في ذلك الموضوع سبب من الأسباب وليس ذلك السبب مقوّماً له من حيث هو ذلك الشخص، فقد يمكن أن يزال عنه ذلك السبب وسائر الأسباب حتى لا يحتاج قوامه إلى ذلك الموضوع. وزوال ذلك السبب ليس يكون سبب احتياجه إلى موضوع آخر، لأن السبب في أن لا يحتاج شيء إلى موضوع آخر، هو عدم السبب في أن كان يحتاج، وهو في ذاته ليس يحتاج. فزوال ذلك السبب ليس هو نفس وجود السبب الآخر إلاّ أن يكون مستحيلاً زوال ذلك السبب إلاّ لوجود هذا السبب الآخر لا غير. فإذا عرضنا هذا السبب زال ذلك السبب، فيكون الشيء قد فارقته الحاجة إلى الموضوع الأول واحتاج إلى الموضوع الآخر لأمرين: أما الأول، فزوال السبب الأول؛ وأما الثاني، فوجود السبب الثاني. لكن جملة هذه الأسباب تكون أموراً خارجة عن طباعه ليس يحتاج إليها في تحقيق ذاته موجوداً ذلك اللون مثلاً، بل إنما يحتاج إليها في أن تتخصص بموضوع. فكونه لوناً، وكونه هذا اللون بعينه إن كان يغنيه عن الموضوع، فليس يحوجه إلى أن يجعله محتاجاً إلى الموضوع، فإن الغني بوجوده عن الموضوع لا يعرض له ما يحوجه إلى الموضوع إلاّ بانقلاب عينه. وإن كان لا يغنيه، بل يعلقه بموضوع فيكون ذلك الموضوع متعيناً له، لأنه يقتضي أمراً متعيناً بعينه. فإن المتعين لا يقتضي أي شيء اتفق مما لا نهاية له بالقوة مما ليس بعضه يخالف الآخر في حكمه. فإن قيل: فكيف يقتضي الواحد المعين؟ فيقال: يقتضي الذي تعلق به صحة وجوده أولاً فيتعين له بذلك. فهذا اللون من حيث هو هذا اللون إما غني عن
الصفحة : 69
الموضوع، وإما مقتصر على موضوع واحد. وأما انقلاب العين فقد تلزمنا من ذكره عهدة يجب أن نخرج منها. فإن انقلاب العين يعنى به أن يعدم هذا ويوجد ذلك من غير أن يدخل من الأول شيء في الثاني، فإنه إن كان هكذا فيكون الأول قد عدم والآخر قد حصل، ولا يكون الأول هو الذي انتقل إلى الثاني. بل إنما نعني بالانقلاب أن الموصوف بالأول صار موصوفاً بالثاني، وذلك أنه يبقى من الأول شيء في الثاني، فيكون مركباً من مادة وشيء فيها. فإن كان هذا صفة اللونية مثلاً في مسألتنا فيكون في اللونية شيء يبطل وشيء يبقى، فيكون هذا الذي بطل هو الذي صار به الشيء لوناً، بل هو اللونية وهو الصورة المادية أو العرض وكلامنا فيها. ونرجع فنقول: وأما إن كان يجوز له أن يفارق هذه الجواهر ويقوم مثلاً بياضاً أو شيئاً آخر بذاته، فلا يخلو إما أن يكون حينئذ إليه إشارة ويكون البياض الذي من شأنه أن يدرك إلاّ أن يعجز عن إدراكه للقلة الفاحشة، ويكون على الجملة التي تعرف البياض عليها. فإن كان كذلك فيلزم أن يكون خلاء موجوداً حتى يكون فيه مشار إليه وليس في الأجسام، ويلزم أن يكون له وضع ما وتقدير ما، فيكون له في ذاته مقدار يكون إلاّ القليل منه محسوساً، فإنا لا نتخيل بياضاً لا وضع له ولا مقدار، فضلاً عن أن نراه. وإذا كان له مقدار ووضع وزيادة هي هيئة البياضية كان جسماً أبيض لا مجرد البياض، فإنا نعني بالبياض هذه الهيئة الزائدة على المقدار والحجم، وإن كان لا يبقى على الجملة التي كان يعرف البياض عليها، بل قد انتقل عن هذه الصورة وصار شيئاً آخر روحانياً. فيكون البياض مثلاً له موضوع يعرض له أن تكون فيه البياضية التي على النحو المعروف، ويعرض لع أن يصير مرة أخرى بصورة أخرى روحانية فيكون أولاً ما تعرفه بياضاً قد فسد وزالت صورته. وأما المفارق العقلي فقد أشرنا - فيما سلف - إلى أنه لا يجوز أن ينتقل مثل هذا الشيء مرة أخرى ذا وضع ومخالطاً للأجسام. وأما إن جاعل البياض شيئاً في نفسه ذا مقدار، فيكون له وجودان: وجود أنه بياض، ووجود أنه مقدار. فإن كان مقداره بالعدد غير مقدار الجسم الذي هو فيه بالعدد، فإذا كان في الأجسام وسارياً فيها فيكون قد دخل بُعدٌ في بُعد، وإن كان هو نفس الجسم منحازاً فيكون الأمر قد عاد إلى أن الشيء الذي هو البياض جسم وله بياضية. فتكون البياضية موجودة في ذلك الجسم إلاّ أنها لا تفارق، ولا يكون البياض مجموع ذلك الجسم والكيفية، بل شيء في ذلك الجسم. إذ حد البياض وماهيته ليس ماهية الطويل العريض العميق، بل تكون ماهية الطويل العريض العميق للحرارة أيضاً على هذا الرأي، فيكون
الصفحة : 70
البياض مقارناً لهذا الشيء ناعتاً له. وهذا معنى قولنا: الصفة في الموصوف، وتكون مع ذلك لا تفارقه وليست جزءاً من ذلك الشيء الذي هو الطويل العريض، فيكون البياض والحرارة عرضاً إلاّ أنه لازم. فيبقى الكلام في أن من طبيعته أن يفارق أيضاً، فقد تبين أن الكيفيات التي هي المحسوسة أعراض، وهذا مبدأ للطبيعيات. وأما الاستعدادات فأمرها واضح، وأما التي تتعلق بالنفس وذوات الأنفس فقد تبين في الطبيعيات أنها أعراض تقوم في أجسام، وذلك حين تكلمنا في أحوال النفس.
الفصل الثامن (ح)
فصل في العلم وأنه عرض.
وأما العلم فإن فيه شبهة، وذلك لأن لقائل أن يقول: إن العلم هو المكتسب من صور الموجودات مجردة عن موادها، وهي صور جواهر وأعراض. فإن كانت صور الأعراض أعراضاً، فصور الجواهر كيف تكون أعراضاً؟ فإن الجوهر لذاته جوهر فماهية جوهر لا تكون في موضوع البتة وماهيته محفوظة سواء نسبت إلى إدراك العقل لها أو نسبت إلى الوجود الخارجي. فنقول: إن ماهية الجوهر جوهر بمعنى أنه الموجود في الأعيان لا في موضوع، وهذه الصفة موجود لماهية الجواهر المعقولة، فإنها ماهية شأنها أن تكون موجود في الأعيان لا في موضوع، أي أن هذه الماهية هي معقولة عن أمر وجوده في الأعيان أن يكون لا في موضوع. وأما وجوده في العقل بهذه الصفة فليس ذلك في حده من حيث هو جوهر، أي ليس حد الجوهر أنه في العقل لا في موضوع، بل حده أنه سواء كان في العقل أو لم يكن فإن وجوده في الأعيان ليس في موضوع. فإن قيل: فالعقل أيضاً من الأعيان، قيل: يراد بالعين التي إذا حصل فيها الجوهر صدرت عنه أفاعيله وأحكامه. والحركة كذلك ماهيتها أنها كمال ما بالقوة، وليست في العقل حركة بهذه الصفة حتى يكون في العقل كمال ما بالقوة كم جهة كذا حتى تصير ماهيتها محركة للعقل، لأن معنى كون ماهيتها على هذه الصورة هو أنها ماهية تكون في الأعيان كمالاً لما بالقوة وإذا عقلت فإن هذه الماهية تكون أيضاً بهذه الصفة، فإنها في العقل ماهية تكون في الأعيان كمال ما بالقوة، فليس يختلف كونها في الأعيان وكونها في العقل، فإنه في كليهما على حكم واحد فإنه في كليهما ماهية توجد في الأعيان كمالاً لما
الصفحة : 71
بالقوة. فلو كنا قلنا: إن الحركة ماهية تكون كمالاً لما بالقوة في الأبدان مثلاً لكل شيء توجد فيه، ثم وجدت في النفس لا كذلك، لكانت الحقيقة تختلف. وهذا كقول القائل: إن حجر المغناطيس حقيقته أنه حجر يجذب الحديد، فإذا وجد مقارناً لجسمية كف الإنسان ولم يجذبه، ووجد مقارناً لجسمية حديد ما فجذبه، فلم يجب أن يقال: إنه مختلف بالحقيقة في الكف وفي الحديد، بل هو في كل واحد منهما بصفة واحدة وهو: أنه حجر من شأنه أن يجذب الحديد، فإنه إذا كان في الكف أيضاً كان بهذه الصورة، وإذا كان عند الحديد أيضاً كان بتلك الصفة. فكذلك حال ماهيات الأشياء في العقل، والحركة في العقل أيضاً بهذه الصفة، وليس إذا كانت في العقل في موضوع بطل أن تكون في العقل ليست ماهية ما في الأعيان ليست في موضوع. فإن قيل، قد قلتم: إن الجوهر هو ما ماهيته لا تكون في موضوع أصلاً، وقد صيرتم ماهية المعلومات في موضوع. فنقول، قد قلنا: إنه لا يكون في موضوع في الأعيان أصلاً. فإن قيل: قد جعلتم ماهية الجوهر أنها تارة تكون عرضاً وتارة جوهراً، وقد منعتم هذا. فنقول: إنا منعنا أيضاً أن تكون ماهية شيء توجد في الأعيان مرة عرضاً ومرة جوهراً حتى تكون في الأعيان تحتاج إلى موضوع ما وفيها لا تحتاج إلى موضوع البتة، فلم نمنع أن يكون معقول تلك الماهيات يصير عرضاً، أي تكون موجودة في النفس لا كجزء. ولقائل أن يقول: فماهية العقل الفعال والجواهر المفارقة أيضاً كذا يكون حالها، حتى يكون المعقول منها عرضاً، لكن المعقول منها لا يخالفها لأنها لذاتها معقولة. فنقول: ليس الأمر كذلك، فإن معنى قولنا: إنها لذاتها معقولة هو أنها تعقل ذاتها، وإن لم يعقلها غيرها، وأنها أيضاً مجردة عن المادة وعلائقها لذاتها لا بتجريد يحتاج أن يتولاه العقل. وأما إن قلنا: إن هذا المعقول منها يكون من كل وجه هي أو مثلها، أو قلنا: إنه ليس يحتاج في وجود المعقول منها إلاّ أن توجد ذاتها في النفس، فقد أحلنا. فإن ذاتها مفارقة، ولا تصير نفسها صورة لنفس إنسان، ولو صارت لكانت تلك النفس قد حصلت فيها صورة الكل وعلمت كل شيء بالفعل، ولكانت تصير كذلك لنفس واحدة، وتبقى النفوس الأخرى ليس لها الشيء الذي تعقله، إذ قد استبد بها نفس ما. والذي يقال: إن شيئاً واحداً بالعدد يكون صورة لمواد كثيرة لا بأن يؤثر فيها، بل بأن يكون هو بعينه منطبعاً في تلك المادة وفي أخرى وأخرى، فهو محال يعلم بأدنى تأمل. وقد أشرنا إلى الحال في ذلك
الصفحة : 72
عند كلامنا في النفس، وسنخرج من بعد إلى خوض في إبانة ذلك. فإذن تلك الأشياء إنما تحصل في العقول البشرية معاني ماهياتها لا ذواتها، ويكون حكمها حكم سائر المعقولات من الجواهر إلاّ في شيء واحد هو أن تلك تحتاج إلى تفسيرات حتى يتجرد منها معنى يعقل، وهذا لا يحتاج إلى شيء غير أن يوجد المعنى كما هو فتنطبع به النفس. فهذا الذي قلناه إنما هو نقض حجة المحتج، وليس فيه إثبات ما تذهب إليه، فنقول: إن هذه المعقولات سنبين أمرها بعد، أن ما كان من الصور الطبيعية والتعليميات فليس يجوز أن يقوم مفارقاً بذاته، بل يجب أن يكون في عقل أو نفس. وما كان من أشياء مفارقة، فنفس وجود تلك المفارقات مباينة لنا، ليس هو علمنا لها، بل يجب أن نتأثر عنها فيكون ما يتأثر عنها هو علمنا بها، وكذلك إن كانت صوراً مفارقة وتعليميات مفارقة فإنما يكون علمنا بها ما يحصل لنا منها، ولا تكون أنفسها توجد لنا متنقلة إلينا، فقد بينا بطلان هذا في مواضع. بل الموجود منها لنا هي الآثار المحاكية لها لا محالة وهي علمنا. وذلك يكون إما أن يحصل لنا في أبداننا أو نفوسنا. وقد بينا استحالة حصول ذلك في أبداننا، فيبقى أنها تحصل في نفوسنا. ولأنها آثار في النفس، لا ذوات تلك الأشياء، ولا أمثال لتلك الأشياء قائمة لا في مواد بدنية أو نفسانية، فيكون ما لا موضوع له يتكثر نوعه بلا سبب يتعلق به بوجه؛ فهي أعراض في النفس.
الفصل التاسع (ط)
الصفحة : 73
فصل في الكيفيات التي في الكميات وإثباتها.
هذا الفصل يليق بالطبيعيات، وقد بقي جنس واحد من الكيفيات يحتاج إلى إثبات وجوده وإلى التنبيه على كونه كيفية، وهذه هي الكيفيات التي في الكميات. أما التي في العدد كالزوجية والفردية غير ذلك، فقد علم وجود بعضها وأثبت وجود الباقي في صناعة الحساب. وأما أنها أعراض، فلأنها متعلقة بالعدد، وخواص له، والعدد من الكم، والكم عرض. وأما التي تعرض للمقادير فليس وجودها ببّين، فإن الدائرة والخط المنحني والكرة والاسطوانة والمخروط ليس شيء منها ببين الوجود، ولا يمكن للمهندس أن يبرهن على وجودها. لأن سائر الأشياء إنما تبين له بوضع وجود الدائرة، ولأن ذلك المثلث يصح وجوده إن صحت الدائرة، وكذلك المربع، وكذلك سائر الأشكال. وأما الكرة، فإنما يصح وجودها على طريقة المهندس إذا أراد دائرة في دائرة على نحو ما علمت والاسطوانة إذا حركت دائرة حركة يلزم فيها مركزها خطاً مستقيماً طرفه في مركزها في أول الوضع لزوماً على الاستقامة. والمخروط إذا حركت مثلثاً قائم الزاوية على أحد ضلعي القائمة حافظاً بطرف ذلك الضلع مركز الدائرة ودائراً بالضلع الثاني على محيط الدائرة. ثم الدائرة مما ينكر وجودها من يرى تأليف الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، فيجب أن يبين وجود الدائرة. وأما عرضيتها فتظهر لنا لتعلقها بالمقادير التي هي أعراض. فنقول: أما على مذهب من يركب المقادير من أجزاء لا تتجزأ فقد يمكن أن يثبت عليه أيضاً وجود الدائرة من أصوله، ثم ينقص بوجود الدائرة جزءه الذي لا يتجزأ. وذلك لأنه إذا فرضت دائرة على النحو المحسوس، وكانت على ما يقولون غير دائرة في الحقيقة، بل كان المحيط مضرساً. وكذلك إذا فرض فيها جزء على أنه المركز، وإن لم يكن ذلك الجزء مركزاً بالحقيقة، فقد يكون عندهم مركزاً في الحس، ويجعل المفروض مركزاً في الحس طرفاً خط، مؤلف من أجزاء لا تتجزأ، مستقيم، فإن ذلك صحيح الوجود مع فرض ما لا يتجزأ. فإن طوبق بطرفه الآخر جزء من الذي عند المحيط، ثم أزيل وضعه، وأخذ الجزء الذي يلي الجزء الذي من المحيط الذي اعتبرناه وطابقنا به الخط أولاً فطوبق به أس الخط المستقيم مطابقة مماسة أو موازاة إلى جهة المركز. فإن طابق المركز فذلك الغرض، وإن زاد أو نقص فيمكن أن يتم ذلك بالأجزاء حتى لا يكون هناك جزء يزيد، لأنه إن زاد أزيل، وإن نقص تمم وإن نقص بإزالته وزاد بالحاقه فهو منقسم لا محالة وقد فرض غير منقسم. فإذا جعل كذلك بجزء
الصفحة : 74
جزء تمت الدائرة. ثم إن كان في سطحها تضريس أيضاً من أجزاء، فإن كانت موضوعة في فرج أدخلت تلك الأجزاء الفرج ليسد بها الخلل من السطح كلها، وإن كانت لا تدخل الفرج فالفرج أقل منها في القدر فهي إذن منقسمة إذ الذي يملأ الفرج أقل حجماً منها، وما هو كذلك، فهو نفسه منقسم وإن لم يمكن فصله. وإن لم تكن موضوعة في فرج أزيلت من وجه السطح من غير حاجة إليها. فإن قال قائل: إنه إذا طوبق بين الجزء المركزي وبين المحيطي مرة، فليس يمكن التطبيق لا بمماسة ولا بموازاة مع المركزي، والذي بلى ذلك الجزء من المحيط. فإنا نقول له: أرأيت لو أعدمت هذه الأجزاء كلها وبقي الذي في المركز والمحيط؟ أهل كان بينهما استقامة يمكن أن يطبق عليه هذا الخط؟ فإن لم يجوزوا ذلك فقد خرجوا عن البين بنفسه، وأوقعوا أنفسهم في شغل آخر وهو أنه يمكن أن تفرض مواضع مخصوصة فيها تتم هذه الاستقامة في الخلاء الذي لهم، حتى يكون بين جزئين في الخلاء استقامة، وبين جزئين آخرين لا يكون. وهذا شطط ممن يتكلفه ويجوز القول به، فلا ضير، فإنما يبيع عقله بثمن بخس. فإن البديهة أيضاً تشهد أن بين كل جزئين تتفق محاذاة لا محالة يملأها الملأ أقصر الملأ، أو أقصر بعد في الملأ. وإن قالوا: إن ذلك يكون، ولكن ما دامت هذه الأجزاء موجودة فلا يكون بينهما هذه المحاذاة، ولا يجوز أن يوازي طرفيها طرفاً مستقيم، فهذا أيضاً من ذلك. فتكون كأن تلك الأجزاء إن وجدت تغير حكم المحاذاة عن حكمه لو كانت معدومة، وجميع هذا مما لا يشكل على البديهة بطلانه ولا الوهم - الذي هو القانون في الأمور المحسوسة وما يتعلق بها، كما علمت - يتصوره. على أن الأجزاء التي لا تتجزأ لا تتألف منها بالحقيقة لا دائرة ولا غير دائرة، وإنما هذا على قانون القائلين به. وإذا صحت دائرة صحت الأشكال الهندسية فيبطل الجزء ويعلم ذلك من أن كل خط ينقسم بقسمين متساويين وأن قطرأ لا يشارك ضلعاً وما أشبه ذلك، فإن الخط الفرد الأجزاء لا ينقسم بقسمين متساويين، وكل خط مؤلف من أجزاء لا تتجزأ يشارك فيها كل خط، وهذا خلاف ما يبرهن عليه بعد وضع الدائرة، وكذلك أشياء أخرى غير هذا. وأما إثبات الدائرة على أصل المذهب الحق فيجب أن نتكلم فيه، وأما الاستقامة وجوب محاذاة بين طرفي خط إذا لزمه المتحرك لم يكن حايداً، وإن فارقه كان حايداً عادلاً، فذلك أمر لا يمكن دفعه. فنقول: قد تبين في الطبيعيات من وجه وجود الدائرة، وذلك لأنه تبين لنا أن جسماً بسيطاً، وتبين أن كل
الصفحة : 75
جسم بسيط فله شكل طبيعي، وتبين أن شكله الطبيعي هو الذي لا يختلف البتة في أجزائه، ولا شيء من الأشكال الغير المستديرة كذلك. فقد صح وجود الكرة وقطعها بالمستقيم هو الدائرة فقد صح وجود الدائرة. وأيضاً يمكننا أن نصحح ذلك فنقول: من البين أنه إذا كان خط أو سطح على وضع ما فليس من المستحيل أن يفرض لسطح آخر أو خط آخر أن يكون وضعه بحيث يلاقيه من أحد طرفيه على زاوية. ومن البين أنه يمكننا أن ننقل هذا الجسم أو هذا الخط نقلاً كيف شئنا إلى أن يصير ملاقياً لذلك الآخر أو موضوعاً في موضعه، كأن يحاذيه بجميع امتداده ملاقياً له أو موضوعاً في موضعه أو موازياً. ويمكن لجسم واحد بعينه أن يوضع على وضع ثم يوضع على وضع آخر يقاطعه والكلام في الجسمين والجسم الواحد واحد. فإن كانت الاستقامة ولم تكن استدارة لم يمكن هذا البتة، لأنه إن كانت الحركة إلى الإنطباق على الاستقامة ذاهبة في الطول ثم راجعة أي الرجوعات كانت، أو ذاهبة في السمك راجعة كيف كانت، أو ذاهبة عرضاً من الجهتين أو كيف فرضت، فإنه إذا كان يحفظ النقطة التي تفرض على واسطة السطح أو الخط في تحركها خطاً مستقيماً، فإنه لا يلقى البتة ذلك الجسم، بل يقاطعه كيف كان. وأنت يمكنك أن تفرض كل واحد من هذه الأقسام بالفعل وتعتبره، بل يجب آخر الأمر أن تتفق حركته على صفة أذكرها. إما أن يكوت أحد الطرفين فيها من الخط أوالسطح أو الجسم لازماً موضعه، والآخر ينتقل، وذلك على الدور؛ أو كلاهما ينتقلان، ولكن على صفة أن يكون أحدهما أبطأ والآخر أسرع؛ فيكون الطرفان أو المتحرك وحده على كل حال يقع قوس دائرة. وإذا صح وجود قوس دائرة صح أن يضعف إلى التمام، وهذا على الأصول الصحيحة. وأما إن قال أحد بالتفكيك، فالطريقة الأولى تناقضه. وأيضاً لنفرض جسماً ثقيلاً ونجعل أحد طرفيه أثقل من الآخر، ونجعله قائماً على سطح مسطح مماساً له بطرفه الأخف حتى يقوم قائماً عليه بحيلة، وأنت تعلم أن قيامه إذا عدل ميله إلى الجهات مما يستمر، وأنه إذا أميل إلى جهة وزال الداعم حتى سقط فتحدث دائرة لا محالة أو منحنٍ. أما كيف تكون، فلنفرض نقطة في الرأس المماس للسطح، وهي أيضاً تلقى نقطة من السطح، فحينئذ لا يخلو إما أن تثبت النقطة في موضعها، فتكون كل نقطة نفرضها في رأس ذلك الجسم قد فعلت دائرة؛ وأما أن يكون - مع حركة هذا الطرف إلى أسفل - يتحرك الطرف الآخر إلى فوق، فيكون قد فعل كل واحد من الطرفين دائرة، ومركزها النقطة المتحددة بين الجزء الصاعد والجزء الهابط، وإما أن تتحرك النقطة منجزة على طول السطح، فيفعل الطرف الآخر قطعاً أو خطاً أو منحنياً، ولأن الميل إلى المركز
الصفحة : 76
إنما هو على المحاذاة، فمحال أن تنجز النقطة على السطح. لأن تلك الحركة إما أن تكون بالقسر أو بالطبع، وليست بالطبع وليست بالقسر، لأن ذلك القسر لا يتصور إلاّ عن الأجزاء التي هي أثقل، وتلك ليست تدفعها إلى تلك الجهة، بل إن دفعتها على حفظ الإتصال دفعتها على خلاف حركتها ونقلتها ليمكن أن تنزل هي، كأن العالية منها إذ هي أثقل تطلب حركة أسرع، والمتوسطة أبطأ. وهناك إتصال يمنع ميلاً من أن ينعطف فيضطر العالي إلى أن يشيل السافل حتى ينحدر، فيكون حينئذ الجسم منقسماً إلى جزئين: جزء يميل إلى العلو قسراً، وجزء يميل إلى السفل طبعاً، وبينهما حد هو مركز للحركتين، وقد خرج منه خط مستقيم ما فيفعل الدائرة. فبين أنه إن لزم عن انحدار الجسم زوال فهو إلى فوق، وإن لم يزل عنه فموجود الدائرة أصح. فإذا ثبتت الدائرة ثبت المنحني، لأنه إذا ثبتت الدائرة ثبتت المثلثات والقائم الزاوية أيضاً، وثبت جواز دور أحد ضلعي القائمة على الزاوية فصح مخروط، فإن فصل مخروط بسطح محارف صح قطع، فصح منحن.
الفصل العاشر (ي)
الصفحة : 77
فصل في المضاف
وأما القول في المضاف، وبيان أنه كيف يجب أن تتحقق ماهية المضاف والإضافة وحدهما، فالذي قدمناه في المنطق كاف لمن فهمه. وأما أنه إذا فرض للإضافة وجود كان عرضاً، فلذلك أمر لا شك فيه، إذ كان أمراً لا يعقل بذاته، إنما يعقل دائماً لشيء إلى شيء، فإنه لا إضافة إلاّ وهي عارضة. أول عروضها للجوهر مثل: الأب والابن، أو للكم فمنه ما هو مختلف في الطرفين، ومنه ما هو متفق بالمختلف مثل: الضعف والنصف، والمتفق مثل: المساوي والمساوي والموازي والموازي والموازي والمطابق والمطابق والمماس والمماس. ومن المختلف ما اختلافه محدود ومحقق كالنصف والضعف، ومنه ما هو غير محقق إلاّ أنه مبني على محقق كالكثير الأضعاف والكل والجزء، ومنه ما ليس بمحقق بوجه مثل الزائد والناقص والبعض والجملة. وكذلك إذا وقع مضاف في مضاف كالأزيد والأنقص فإن الأزيد إنما هو زائد بالقياس إلى زائد أيضاً مقيس إلى ناقص. ومن المضاف ما هو في الكيف فمنه متفق كالمشابهة، ومنه مختلف كالسريع والبطيء في الحركة، والثقيل والخفيف في الأوزان، والحاد والثقيل في الأصوات وكذلك قد تقع فيها كلها إضافة في إضافة، وفي الاين كالأعلى والأسفل، وفي المتى كالمتقدم والمتأخر، وعلى هذه الصفات، وتكاد تكون المضافات منحصرة في أقسام المعادلة، والتي بالزيادة والنقصان، والتي بالفعل والإنفعال ومصدرها من القوة، والتي بالمحاكاة. فإما التي بالزيادة فإما من الكم كما تعلم، وإما في القوة مثل الغالب والقاهر والمانع وغير ذلك. والتي بالفعل والإنفعال كالأب والابن والقاطع والمنقطع وما أشبه ذلك، والتي بالمحاكاة فكالعلم والمعلوم والحس والمحسوس، فإن بينهما محاكاة، فإن العلم يحاكي هيئة المعلوم، والحس يحاكي هيئة المحسوس، على أن هذا لا يضبط تقديره وتحديده. لكن المضافات قد تنحصر من جهة، فقد يكون المضافان شيئين لا يحتاجان إلى شيء آخر من الأشياء التي لها استقرار في المضاف حتى تعرض لأجله لهما إضافة، مثل المتيامن والمتياسر، فليس في المتيامن كيفية أو أمر من الأمور مستقر صار به مضافاً بالتيامن إلاّ نفس المتيامن. وربما احتيج إلى أن يكون في كل واحد من الأمرين شيء حتى يصير به منقاساً إلى الآخر، مثل العاشق والمعشوق. فإن العاشق هيئة أدراكية هي مبدأ الإضافة، وفي المعشوق هيئة مدركة هي التي جعلته معشوقاً لعاشقه.
الصفحة : 78
وربما كان هذا الشيء في إحدى الجهتين دون الأخرى مثل العالم والمعلوم. فإن العالم قد حصل في ذاته كيفية هي العلم، صار بها مضافاً إلى الآخر. والمعلوم لم يحصل في ذاته شيء آخر، إنما صار مضافاً لأنه قد حصل في ذلك الآخر شيء هو العلم. والذي بقي لنا ههنا من أمر المضاف أن نعرف هل الإضافة معنى واحداً بالعدد وبالموضوع، موجود بين شيئين وله اعتباران كما ظنه بعض الناس، بل أكثرهم؟ أو لكل واحد من المضافين خاصية في إضافته؟ فنقول: إن كل واحد من المضافين فإن له معنى في نفسه بالقياس إلى الآخر، ليس هو المعنى الذي للآخر في نفسه بالقياس إليه. وهذا بيّن في الأمور المختلفة الإضافة كالأب فإن إضافته للأبوة - وهي وصف وجوده - في الأب وحده، ولكن إنما هو للأب بالقياس إلى شيء آخر في الأب، وليس كونه بالقياس إلى الآخر هو كونه في الآخر، فإن الأبوة ليست في الابن وإلاّ لكانت وصفاً له يشتق له منه الإسم، بل الأبوة في الأب. وكذلك أيضاً حال الابن بالقياس إلى الأب فليس ههنا شيء واحد البتة هو في كليهما، فليس ههنا إلاّ أبوة أو بنوة. وأما حالة موضوعة للأبوة والبنوة فلسنا نعرفها ولا لها إسم. فإن كان ذلك كون كل واحد منهما بحال بالقياس إلى الآخر، فهذا ككون كل واحد من الققنس والثلج أبيض، فإنه ليس يجب أن يكون شيئاً واحداً، وليس كونه بالقياس إلى الآخر يجعله واحداً، لأن ما لكل واحد بالقياس إلى الآخر فهو لذلك الواحد لا الآخر، لكنه بالقياس إلى الآخر. فإذا فهمت ذلك فيما مثلناه لك، فاعرف الحال في سائر المضافات التي لا اختلاف فيها. وإنما يقع أكثر الإشكال في هذا الموضع، فإنه لما كان لأحد الأخوين حالة بالقياس إلى الآخر، وكان للآخر أيضاً حالة بالقياس إلى الأول، وكانت الحالتان من نوع واحد حُسبتا شخص واحداً وليس كذلك. فإن الأول أخوة الثاني أي له وصف أنه أخو الثاني، ذلك الوصف له ولكن بالقياس إلى الثاني. وليس ذلك وصف الثاني بالعدد، بل بالنوع، كما لو كان الثاني أبيض والأول أبيض، بل الثاني أيضاً أنه أخو هذا الأول لأن له حالة في ذاته مقولة بالقياس إلى الأول. وكذلك المماسة في المتماسين، فإن كل واحد منهما مماس لصاحبه بأن له مماسته التي لا تكون إلاّ بالقياس إلى الآخر إن كان الآخر مثله. فلا تظنن البتة أن عرضاً واحداً بالعدد يكون في محلين حتى يحتاج أن تعتذر من ذلك في جعلك العرض إسماً مشكّكاً كما فعله ضعفاء التمييز. لكن الأشد اهتماماً من هذا، معرفتنا هل الإضافة في نفسها موجودة في الأعيان أو أمر إنما يتصور في العقل، ويكون ككثير من الأحوال التي تلزم الأشياء إذا عقلت بعد أن تحصل في العقل، فإن الأشياء إذا
الصفحة : 79
عقلت تحدث لها في العقل أمور لم يكن لها من خارج، فتصير كلية وجزئية وذاتية وعرضية وتكون جنس وفصل وتكون محمول وموضوع وأشياء من هذا القبيل. فقوم ذهبوا إلى أن حقيقة الإضافات إنما تحدث أيضاً في النفس إذا عقلت الأشياء. وقوم قالوا: بل بالإضافة شيء موجود في الأعيان، واحتجوا وقالوا نحن نعلم أن هذا في الوجود أب ذلك، وأن ذلك في الوجود ابن هذا، عقل أو لم يعقل، ونحن نعلم أن النبات يطلب الغذاء، وأن الطلب مع إضافة ما، وليس للنبات عقل بوجه من الوجوه ولا إدراك؛ ونحن نعلم أن السماء في نفسها فوق الأرض، والأرض تحتها، أدركت أو لم تدرك، وليست الإضافة إلاّ أمثال هذه الأشياء التي أومأنا إليها وهي تكون للأشياء وإن لم تدرك. وقالت الفرقة الثانية: إنه لو كانت الإضافة موجودة في الأشياء لوجب من ذلك أن لا تنتهي الإضافات، فإنه كان يكون بين الأب والابن إضافة، وكانت تلك الإضافة موجودة لهما أو لأحدهما أو لكل واحد منهما. فمن حيث الأبوة للأب وهي عارضة له، والأب معروض لها، فهي مضافة، وكذلك البنوة. فههنا إذن علاقة للأبوة مع الأب والبنوة مع الابن خارجة عن العلاقة التي بين الأب والابن فيجب أن تكون للإضافة إضافة أخرى وأن تذهب إلى غير النهاية، وأن تكون أيضاً من الإضافات ما هي علاقة بين موجود ومعدوم؛ كما نحن متقدمون بالقياس إلى القرون التي تخلفنا وعالمون بالقيامة. والذي تنحل به الشبهة من الطرفين جميعاً أن نرجع إلى حد المضاف المطلق فنقول: إن المضاف هو الذي ماهيته إنما تقال بالقياس إلى غيره، فكل شيء في الأعيان يكون بحيث ماهيته إنما تقال بالقياس إلى غيره فذلك الشيء من المضاف. لكن في الأعيان أشياء كثيرة بهذه الصفة، فالمضاف في الأعيان موجود، فإن كان للمضاف ماهية أخرى فينبغي أن يجرد ماله من المعنى المعقول بالقياس إلى غيره وغيره، إنما هو معقول بالقياس إلى غيره بسبب هذا المعنى، وهذا المعنى ليس معقولاً بالقياس إلى غيره بسبب شيء غير نفسه، بل هو مضاف لذاته على ما علمت. فليس هناك ذات وشيء هو الإضافة، بل هناك مضاف بذاته لا بإضافة أخرى فتنتهي من هذا الطريق الإضافات. وأما كون هذا المعنى المضاف بذاته في هذا الموضوع، فهو من حيث أنه في هذا الموضوع ماهيته معقولة بالقياس إلى هذا الموضوع، وله وجود آخر مثلاً وهو: وجود الأبوة، وذلك الوجود أيضاً مضاف. ولكن ليس ذلك هذا، فليكن هذا عارضاً من المضاف لزم المضاف، وكل واحد منهما مضاف لذاته إلى ما هو مضاف إليه بلا إضافة أخرى. فالكون محمولاً مضاف لذاته، والكون أبوة صارت
الصفحة : 80
مضافة لذاته. فإن نفس هذا الكون مضاف بذاته ليس يحتاج إلى إضافة أخرى يصير بها مضافاً، بل هو لذاته ماهية معقولة بالقياس إلى الموضوع، أي هو بحيث إذا عقلت ماهيته كانت محتاجة إلى أن يحضر في الذهن شيئاً آخر يعقل هذا بالقياس إليه. بل إذا أخذ هذا مضافاً في الأعيان فهو موجود مع شيء آخر لذاته لا لمعية أخرى تتبعه، بل نفسه نفس المع أو المعية المخصصة بنوع تلك الإضافة. فإذا عقل احتيج إلى أن يعقل مع احضار شيء آخر، كما كانت ماهية الأبوة من حيث هي أبوة، فذاتها مضافة بذاتها لا بإضافة أخرى رابطة، وللعقل أن يخترع أمراً بينها كأنه معية خارجة منهما لا يضطر إليه نفس التصور، بل اعتبار آخر من الاعتبارات اللاحقة التي يفصلها العقل. فإن العقل قد يقرن أشياء بأشياء لأنواع من الاعتبارات لا للضرورة، فأما في نفسها فهي إضافة، لا بإضافة لأنها ماهية لذاتها تعقل بالقياس إلى الغير. وههنا إضافات كثيرة تلحق بعض الذوات لذاتها لا لإضافة أخرى عارضة، بل مثل ما يجري عليه الأمر من لحوق هذه الإضافة للإضافة الأبوية. وذلك مثل لحوق الإضافة لهيئة العلم فإنها لا تكون لاحقة بإضافة أخرى في نفس الأمور، بل تلحقها لذاتها، وإن كان العقل ربما أخترع هناك إضافة أخرى. وإذ قد عرفت هذا فقد عرفت أن المضاف في الوجود موجود بمعنى أن له هذا الحد، وهذا الحد لا يوجب أن يكون المضاف في الوجود إلاّ عرضاً إذا عقل كان بالصفة المذكورة، ولا يوجب أن يكون أمراً قائم الذات واحداً واصلاً بين الشيئين. وأما القول بالقياس فإنما يحدث في العقل، فيكون ذلك هو بالإضافة العقلية والإضافة الوجودية ما بيناه، وهو بحيث إذا عقل كان معقول الماهية بالقياس، وأما كونه في العقل فإن يكون عُقل بالقياس إلى غيره، فله في الوجود حكم، وفي العقل حكم، من حيث هو في العقل لا من حيث الإضافة. ويجوز في العقل إضافات مخترعة إنما يفعلها العقل بسبب الخاصية التي للعقل منها. فالمضاف إذن موجود في الأعيان وبان أن وجوده لا يوجب أن يكون هناك إضافة إلى إضافة بغير نهاية. وليس يلزم من هذا أن يكون كل ما يعقل مضافاً يكون له في الوجود إضافة. وأما المتقدم والمتأخر في الزمان، وأحدهما معدوم وما أشبه ذلك، فإن التقدم والتأخر متضايفان بين الوجود إذا عُقِل، وبين المعقول الذي ليس مأخوذاً عن الوجود الخاص؛ فاعلمه. فإن الشيء في نفسه ليس بمتقدم إلاّ بشيء موجود معه، وهذا النوع من المتقدم والمتأخر موجود
الصفحة : 81
للطرفين معاً في الذهن، فإنه إذا أحضرت في الذهن صورة المتقدم وصورة المتأخر عقلت في النفس هذه المقايسة واقعة بين موجودين فيه، إذ كانت هذه المقايسة بين موجودين في العقل. وأما قبل ذلك فلا يكون الشيء في نفسه متقدماً، فكيف يتقدم على لا شيء موجود؟ فما كان من المضافات على هذه السبل فإنما تضايفها في العقل وحده، وليس في الوجود لها معنى قائم من حيث هذا التقدم والتاخر، بل هذا التقدم والتأخر بالحقيقة معنى من المعاني العقلية ومن المناسبات التي يفرضها العقل والاعتبارات التي تحصل للأشياء إذا قايس بينها العقل وأشار إليها. المقالة الرابعة
وفيها ثلاثة فصول.
الفصل الأول (أ)
فصل في المتقدم والمتأخر وفي الحدوث.
لما تكلمنا عن الأمور التي تقع من الوجود والوحدة موقع الأنواع، فبالحري أن نتكلم في الأشياء التي تقع منهما موقع الخواص والعوارض اللازمة، ونبدأ أولاً بالتي تكون للوجود ومنها بالتقدم والتأخر. فنقول: إن التقدم والتأخر وإن كان مقولاً على وجوه كثيرة فإنها تكاد أن تجتمع على سبيل التشكيك في شيء، وهو أن يكون للمتقدم، من حيث هو متقدم، شيء ليس للمتأخر، ويكون لا شيء للمتأخر إلاّ وهو موجود للمتقدم. والمشهور عند الجمهور هو المتقدم في المكان والزمان. وكان التقدم والقبل في أشياء لها ترتيب، فما هو في المكان فهو الذي أقرب من ابتداء محدود، فيكون له أن يلي ذلك المبدأ حيث ليس يلي ما هو بعده، والذي بعده يلي ذلك المبدأ وقد وَليه هو. وفي الزمان كذلك أيضاً بالنسبة إلى الآن الحاضر أو أن يفرض مبدأ وإن كان مبدأ مختلفاً في الماضي والمستقبل ما تعلم. ثم نقل اسم القبل والبعد من ذلك إلى كل ما هو أقرب من مبدأ محدود. وقد يكون هذا التقدم المرتبي في أمور بالطبع، كما أن الجسم قبل الحيوان بالقياس إلى الجواهر ووضع الجوهر مبدأ، ثم إن جعل المبدأ الشخص اختلف، وكذلك الأقرب من المحرك الأول، كالصبي يكون قبل الرجل. وقد يكون في أمور لا من الطبع، بل إما بصناعة كنغم الموسيقى، فإنك إن أخذت من الحدة كان المتقدم غير الذي يكون إذا أخذت من الثقل؛ وإما ببحث واتفاق كيف كان.
الصفحة : 82
ثم نقل إلى أشياء أخرى فجعل الفائق والفاضل والسابق أيضاً ولو في غير الفضل متقدماً، فجعل نفس المعنى كالمبدأ المحدود. فما كان له منه ما ليس للآخر، وأما الاخر فليس له إلاّ ما لذلك الأول فإنه جعل متقدماً. فإن السابق في باب ما له ما ليس للثاني، وما للثاني منه فهو للسابق وزيادة. ومن هذا القبيل ما جعلوا المخدوم والرئيس قبل، فإن الإختيار يقع للرئيس وليس للمرؤوس، وإنما يقع للمرؤوس حين وقع للرئيس فيتحرك باختيار الرئيس. ثم نقلوا ذلك إلى ما يكون هذا الاعتبار له بالقياس إلى الوجود، فجعلوا الشيء الذي يكون له الوجود أولاً وإن لم يكن للثاني والثاني لا يكون له إلاّ وقد كان للأول وجوداً متقدماً على الآخر مثل: الواحد، فإنه ليس من شرط الوجود للواحد أن تكون الكثرة موجودة، ومن شرط الوجود للكثرة أن يكون الواحد موجوداً. وليس في هذا أن الواحد يفيد الوجود للكثرة أو لا يفيد، بل إنه يحتاج إليه حتى يفاد للكثرة وجود بالتركيب منه. ثم نقل بعد ذلك إلى حصول الوجود من جهة أخرى، فإنه إذا كان شيئان وليس وجود أحدهما من الآخر، بل وجوده له من نفسه أو من شيء ثالث، لكن وجود الثاني من هذا الأول، فله من الأول وجوب الوجود الذي ليس له لذاته من ذاته، بل له من ذاته الإمكان على تجويز من أن يكون ذلك الأول مهما وجد لزم وجوده أن يكون علة لوجوب وجود هذا الثاني، فإن الأول يكون متقدماً بالوجود لهذا الثاني. ولذلك لا يستنكر العقل البتة أن نقول: لما حرك زيد يده تحرك المفتاح، أو نقول: حرك زيد يده ثم تحرك المفتاح. ويستنكر أن نقول: لما تحرك المفتاح حرك زيد يده، وإن كان يقول: لما تحرك المفتاح علمنا أنه قد حرك زيد يده. فالعقل مع وجود الحركتين معاً في الزمان يفرض لأحدهما تقدماً والآخر تأخراً إذ كانت الحركة الأولى ليس سبب وجودها الحركة الثانية، والحركة الثانية سبب وجودها الحركة الأولى. ولا يبعد أن يكون الشيء مهما وجد وجب ضرورةً أن يكون علة لشيء. وبالحقيقة فإن الشيء لا يجوز أن يكون بحيث يصح أن يكون علة للشيء إلاّ ويكون معه الشيء. فإن كان من شرط كونه علة نفس ذاته، فما دام ذاته موجوداً يكون علة وسبباً لوجود الثاني؛ وإن لم يكن شرط كونه علة نفس ذاته، فذاته بذاته ممكن أن يكون عنه الشيء وممكن أن لا يكون وليس أحد الطرفين أولى من الآخر. وكذلك المتكون هو كذلك ممكن أن يكون وممكن أن لا يكون. فلا من حيث هو ممكن أن يكون هو بموجود، ولا من حيث ذلك ممكن أن يكونه، فذلك معط للوجود. وذلك لأن كون الشيء عن الممكن أن يكونه ليس لذات أنه ممكن أن يكونه، فنفس كونه ممكناً ليس كافياً في أن يكون الشيء عنه. فإن كان
الصفحة : 83
نفس كونه ممكناً أن يكونه، وإن لم يكن كافياً، فقد يكون معه الشيء موجوداً مرة، ومرة لا يكون؛ ونسبته إلى الذي يكون والذي لا يكون، في الحالتين، نسبة واحدة. وليس في الحالة التي تتميز فيها أن يكون من أن لا يكون تميز أمر بسببه يوجد المعلول مع إمكان كونه عن العلة تميزاً يخالف به حال لا وجود المعلول عن العلة مع إمكان كونه عن العلة. فتكون نسبة كونه عن العلة إلى وجود الشيء عنه ولا وجود عنه واحدة، وما نسبته إلى وجود الشيء عنه ونسبته إلى لا وجوده عنه واحدة. فليس كونه علة أولى من لا كونه علة، بل العقل الصحيح يوجب أن يكون هناك حال يتميز بها وجوده عنه عن لا وجوده. فإن كانت تلك الحال أيضاً توجب هذا التمييز، فهذه الحال إذا حصلت للعلة ووجدت تكون جملة الذات وما اقترن إليها هو العلة، وقبل ذلك فإن الذات كانت موضوع العلية. وكان الشيء الذي يصح أن يصير علة ولم يكن ذلك الوجود وجود العلة، بل وجوداً إذا انضاف إليه وجود آخر كان مجموعهما العلة، وكان حينئذ يجب عنه المعلول سواء كان ذلك الشيء إرادة أو شهوة أو غضباً أو طبعاً حادثاً أو غير ذلك، أو أمراً خارجاً منتظراً لوجود العلة. فإنه إذا صار بحيث يصلح أن يصدر عنه المعلول من غير نقصان شرط باق وجب وجود المعلول. فإذن وجود كل معلول واجب مع وجود علته، ووجود علته واجب عنه وجود المعلول. وهما معاً في الزمان أو الدهر أو غير ذلك، ولكن ليسا معاً في القياس إلى حصول الوجود. وذلك لأن وجود ذلك لك يحصل من وجود هذا، فذلك له حصول وجود ليس من حصول وجود هذا، ولهذا حصول وجود هو من حصول وجود ذلك، فذلك أقدم بالقياس إلى حصول الوجود. ولقائل أن يقول: إنه إذا كان كل واحد منهما إذا وجد وجد الآخر، وإذا ارتفع ارتفع الآخر، فليس أحدهما علة والآخر معلولاً، إذ ليس أحدهما أولى أن يكون علة في الوجود دون الآخر. ونحن نجيب عن ذلك دون أن ننظر فيما يتضمنه مفهوم هذه القضية، وذلك لأنه ليس إذا وجد كل واحد منهما فقد وجد الآخر بلا تفصيل واختلاف. وذلك لأن معنى "إذا" لا يخلو إما أن يعنى به أن وجود كل واحد منهما إذا حصل يجب عنه في الوجود نفسه أن يحصل الآخر، أو أن وجود كل واحد منهما إذا حصل يجب عنه في الوجود أن يكون قد حصل وجود الآخر، أو أن وجود كل منهما إذا حصل في العقل يجب عنه أن يحصل الآخر في العقل، أو أن وجود كل واحد منهما إذا حصل يجب عنه في العقل أن يكون قد حصل الآخر في الوجود أو حصل في العقل، فإن لفظة "إذا" في مثل هذه المواضع مشتركة مغلطة.
الصفحة : 84
فنقول: إن الأول كاذب غير مسلم، فإن أحدهما هو الذي إذا حصل يجب عنه حصول الآخر بعد إمكانه وهو العلة. وأما المعلول فليس حصوله يجب عنه حصول العلة، بل العلة تكون قد حصلت حتى حصل المعلول. وأما القسم الثاني فلا يصدق في جانب العلة، فإنه ليس إذا وجدت العلة وجب في الوجود إن كان المعلول قد حصل من تلقاء نفسه أو بغير علة، وذلك لأنه إن كان قد حصل فلم يجب في الوجود من حصول العلة إذا وجدت العلة وكانت تلك قد حصلت مستغنية الوجود، إلاّ أن لا يعني "بحصلت" ما مضى. ولكن تغني المقارنة ولا تصدق من جانب المعلول من وجهين: وذلك لأن العلة وإن كانت حاصلة الذات فليس ذلك واجب من حصول المعلول. والوجه الثاني أن الشيء الذي قد حصل يستحيل أن يجب وجوده بحصول شيء يفرض حاصلاً إلاّ أن لا يعني بلفظ "حصل" مفهومه. وأما القسمان الآخران فالأول منهما صحيح، فإنه يجوز أن يقال: إذا وجدت العلة في العقل وجب عند العقل أن يحصل المعلول الذي تلك العلة علته بالذات في العقل؛ وأيضاً إذا وجد المعلول في العقل وجب أن يحصل أيضاً وجود العلة في العقل. وأما الثاني منهما وهو القسم الرابع فيصدق منه قولك: إنه إذا وجد المعلول شهد العقل بأن العلة قد حصل لها وجود لا محالة مفروغ عنه حتى يحصل المعلول، وربما كانت في العقل بعد المعلول لا في الزمان فقط، ولا يلزم أن يصدق القسم الآخر من هذين القسمين الداخلين في الرابع لما قد عرفت. وكذلك في جانب الرفع، فإنه إذا رفعنا العلة رفعنا المعلول بالحقيقة، وإذا رفعنا المعلول لم نرفع العلة، بل عرفنا أن العلة تكون قد ارتفعت في ذاتها أولاً حتى أمكن رفع المعلول. فإنا لما فرضنا المعلول مرفوعاً فقد فرضنا ما لا بد من فرضه معه بالقوة، وهو أنه كان ممكناً رفعه. وإذا كان ممكناً رفعه فإنما أمكن بأن رفع العلة أولاً، فرفع العلة وإثباته سبب رفع المعلول وإثباته، ورفع المعلول دليل رفع ذلك، وإثباته دليل إثباته. فنرجع إلى حيث فارقناه، فنقول في حل الشبهة: إنه ليست المعية هي التي أوجبت لأحدهما العلية، حتى يكون ليس أحدهما أولى بالعلية من الآخر لأنهما في المعية سواء، بل إنما اختلفا لأن أحدهما فرضناه أنه لم يجب وجوده بالآخر، بل مع الآخر؛ والثاني فرضناه أنه كما أن وجوده مع الآخر فكذلك هو بالآخر. فهكذا يجب أن تتحقق هذه المسألة. ومما يشكل ههنا أمر القوة والفعل، وأنه أيهما أقدم وأيهما أشد
الصفحة : 85
تأخراً، فإن معرفة ذلك من المهمات في أمر معرفة التقدم والتأخر، وعلى أن القوة والفعل نفسه من عوارض الوجود ولواحقه، والأشياء التي يجب أن تعلم حيث تعلم أحوال الموجود المطلق.
الفصل الثاني (ب)
فصل في القوة والفعل والقدرة والعجز وإثبات المادة لكل متكون.
إن لفظة القوة وما يرادفها قد وضعت أول شيء للمعنى الموجود في الحيوان، الذي يمكنه بها أن تصدر عنه أفعال شاقة من باب الحركات ليست بأكثرية الوجود عن الناس في كميتها وكيفيتها، ويسمى ضدها الضعف، وكأنها زيادة وشدة من المعنى الذي هو القدرة، وهو أن يكون الحيوان بحيث يصدر عنه الفعل إذا شاء، ولا يصدر عنه إذا لم يشأ، التي ضدها العجز. ثم نقلت عنه فجعلت للمعنى الذي لا ينفعل له وبسببه الشيء بسهولة، وذلك لأنه كان يعرض لمن يزاول الأفعال والتحريكات الشاقة أن ينفعل أيضاً منها، وكان انفعاله والألم الذي يعرض له منه يصده عن إتمام فعله. فكان إن انفعل انفعالاً محسوساً قيل له: ضعف وليست له قوة، وإن لم ينفعل قيل: إن له قوة. فكان أن "ينفعل" دليلاً على المعنى الذي سميناه أولاً قوة. ثم جعلوه اسم هذا المعنى حتى صار كونه بحيث لا ينفعل إلاّ يسيراً يسمى قوة، وإن لم يفعل شيئاً. ثم جعلوا الشيء الذي لا ينفعل البتة أولى بهذا الاسم، فسموا حالته من حيث هو كذلك قوة. ثم صيروا القدرة نفسها - وهي الحال التي للحيوان، وبها يكون له أن يفعل، وأن لا يفعل، بحسب المشيئة، وعدم المشيئة، وزوال العوائق - قوة، إذ هو مبدأ الفعل. ثم أن الفلاسفة نقلوا اسم القوة، فأطلقوا لفظ القوة على كل حال تكون في شيء هو مبدأ تغيير يكون منه في آخر من حيث ذلك آخر، وإن لم يكن هناك إرادة، حتى سموا الحرارة قوة لأنها مبدأ التغيير من آخر في آخر بأنه آخر. حتى أن الطبيب إذا حرك نفسه أو عالج نفسه وكان مبدأ التغيير منه فيه، فليس ذلك فيه من حيث هو قابل للعلاج أو الحركة، بل من حيث هو آخر، بل كأنه شيئان: شيء له قوة أن يفعل، وشيء له قوة أن ينفعل، ويشبه أن يكون الأمران منه مفترقين في جزءين. فيكون مثلاً المحرك في نفسه، والمتحرك في بدنه، وهو المحرك بصورته والمتحرك في مادته. فهو من حيث يقبل العلاج غيرٌ لذاته من حيث يعالج.
الصفحة : 86
ثم بعد ذلك لما وجدوا الشيء الذي له قوة بالمعنى المشهور - قدرة كانت أو شدة قوة - ليس من شرط تلك القوة أن يكون بها فاعلاً بالفعل، بل له من حيث القوة إمكان "أن يفعل" وإمكان أن "لا يفعل" نقلوا اسم القوة إلى الإمكان. فسموا الشيء الذي وجوده في حد الإمكان موجوداً بالقوة، وسموا إمكان قبول الشيء وانفعاله قوة انفعالية، ثم سموا تمام هذه القوة فعلاً وإن لم يكن فعلاً، بل انفعالاً، مثل تحريك أو تشكل أو غير ذلك. فإنه لما كان هناك المبدأ الذي يسمى قوة، وكان الأصل الأول في المسمى بهذا الاسم إنما هو على ما هو بالحقيقة فعل، سموا هذا الذي قياسه إلى ما سموه الآن قوة، كقياس الفعل إلى المسمى قديماً باسم الفعل، ويعنون بالفعل حصول الوجود. وإن كان ذلك الأمر انفعالاً، أو شيئاً ليس هو فعلاً ولا انفعالاً، فهذه هي القوة الانفعالية، وربما قالوا قوة لجودة هذه وشدتها. والمهندسون لما وجدوا بعض الخطوط من شأنه أن يكون ضلع مربع، وبعضها ليس ممكناً له أن يكون ضلع ذلك مربع، جعلوا ذلك المربع قوة ذلك الخط كأنه أمر ممكن فيه. وخصوصاً إذا تخيل بعضهم أن حدوث هذا المربع هو بحركة ذلك الضلع على مثل نفسه. وإذ قد عرفت القوة، فقد عرفت القوي، وعرفت أن غير القوي إما الضعيف وإما العاجز وإما السهل الانفعال وإما الضروري، وإما أن لا يكون المقدار الخطي ضلعاً لمقدار سطحي مفروض. وقد يشكل من هذه الجملة أمر القوة التي بمعنى القدرة، فإنها يظن أنها لا تكون موجودة إلاّ لما من شأنه أن يفعل، ومن شأنه أن لا يفعل. فإن كان لما من شأنه أن يفعل فقط فلا يرون أن له قدرة، وهذا ليس بصادق. فإنه إن كان هذا الشيء الذي يفعل فقط يفعل من غير أن يشأ ويريد، فذلك ليس له قدرة ولا قوة بهذا المعنى؛ وإن كان يفعل بإرادة واختيار إلاّ أنه دائم الإرادة ولا يتغير، وإرادته وجوداً اتفاقياً أو يستحيل تغيرها استحالة ذاتية، فإنه يفعل بقدرة. وذلك لأن حد القدرة التي يؤثرون هؤلاء أن يحدوها به موجود ههنا، وذلك لأن هذا يصح عنه أن يفعل إذا شاء وأن لا يفعل إذا لم يشأ، وكلا هذين شرطيان، أي أنه إذا شاء فعل، وإذا لم يشأ لم يفعل.وإنما هما داخلان في تحديد القدرة على ما هما شرطيان، وليس من صدق الشرطي أن يكون هناك استثناء بوحه من الوجوه، أو صدق حملي، فإنه ليس إذا صدق قولنا: إذا لم يشاء أن يفعل، يلزم أن يصدق: لكنه لم يشأ وقتاً ما؛ وإذا كذب: أنه لم يشأ البتة، يوجب ذلك كذب قولنا: وإذا لم يشأ لم يفعل. فإن هذا يقتضي أنه لو كان لا يشاء لما كان يفعل، كما أنه إذا يشاء فيفعل. وغذا صح أنه إذا شاء فعل، صح أنه إذا فعل فقد شاء أي إذا فعل فعل من حيث هو قادر. فيصح أنه إذا لم يشأ لم يفعل، وإذا لم يفعل لم يشأ، وليس في هذا أنه يلزم أن لا يشأ وقتاً ما. وهذا بيّن

الصفحة : 87
لمن عرف المنطق. وهذه القوى التي هي مبادئ للحركات والأفعال، بعضها قوى تقارن النطق والتخيل، وبعضها قوى لا تقارن ذلك. والتي تقارن النطق والتخيل تجانس النطق والتخيل، فإنه يكاد أن يعلم بقوة واحدة الإنسان واللا إنسان، ويكون لقوة واحدة أن تتوهم أمر اللذة والألم، وأن تتوهم بالجملة الشيء وضده. وكذلك هذه القوى أنفسها أو حادها تكون قوة على الشيء وعلى ضده، لكنها بالحقيقة لا تكون قوة تامة أي مبدأ تغير من أمر آخر في آخر بأنه آخر بالتمام وبالفعل إلاّ إذا اقترن بها الإرادة منبعثة عن اعتقاد وهمي تابع لتخيل شهواني أو غضبي، أو عن رأي عقلي تابع لفكرة عقلية أو تصور صورة عقلية. فتكون إذا اقترن بها تلك الإرادة ولم تكن إرادة مميلة بعد، بل إرادة جازمة، وهي التي هي الإجماع الموجب لتحريك الأعضاء، صارت لا محالة مبدأ للفعل بالوجوب، إذ قد بينا أن العلة ما لم تصر علة بالوجوب حتى يجب عنها الشيء لم يوجد عنها المعلول، وقبل هذه الحالة فإنما تكون الإرادة ضعيفة لم يقع إجماع. فهذه القوى المقارنة للنطق - بانفرادها - لا يجب من حضور منفعلها ووقوعه بالنسبة التي إذا فعلت فيه فعلاً، فعلت بها أن يكون يفعل بها وهي بعد قوة. وبالجملة لا يلزم من ملاقاتها للقوة المنفعلة أن تفعل ذلك، وذلك لأنه لو كان يجب عنها وحدها أن تفعل لكان يجب من ذلك أن تصدر عنها الفعلان المتضادان والمتوسطان بينهما، وهذه محال؛ بل إذا صارت كما قلنا فإنها تفعل بالضرورة. وأما القوى التي في غير ذوات النطق والتخيل فإنها إذا لاقت القوة المنفعلة وجب هناك الفعل، إذ ليس هناك إرادة واختيار تنتظر، فإن انتظر هناك فيكون طبع ينتظر. فإذا كان يحتاج إلى طبع فذلك هو إما المبدأ للأمر، وإما جزء من المبدأ. والمبدأ مجموع ما كان قبل وما حصل ويكون حينئذ نظيراً للإرادة المنتظرة. لكن الإرادة تفارق هذا من حيث تعلم، والقوة الإنفعالية أيضاً التي يجب إذا لاقت الفاعل أن يحدث الإنفعال في هذه الأشياء هي القوة الإنفعالية التامة، فإن القوة الإنفعالية قد تكون تامة وقد تكون ناقصة، لأنها قد تكون قريبة وقد تكون بعيدة. فإن في المني قوة أن يصير رجلاً، وفي الصبي أيضاً قوة أن يصير رجلاً، لكن القوة التي في المني تحتاج إلى أن تلقاها أيضاً قوة محركة قبل المحرك إلى الرجلية، لأنها تحتاج إلى الفعل شيئاً ما غير الرجل، ثم بعد ذلك يهيأ أن تخرج إلى الفعل رجلاً، وبالحقيقة فإن القوة الإنفعالية الحقيقية هي هذه. وأما المني فبالحقيقة ليست فيه بعد قوة انفعالية، فإنه يستحيل أن يكون المني وهو مني أن ينفعل رجلاً، لكنه كما كان في قوته أن يصير شيئاً من قبل غير
الصفحة : 88
المني ثم ينتقل بعد ذلك إلى شيء آخر، كان هو بالقوة أيضاً ذلك الشيء، بل المادة الأولى هو بالقوة كل شيء. فبعض ما يحصل فيها يعوقها عن بعض، فيحتاج المعوق عنه إلى زواله، وبعض ما فيه لا يعوق عن بعض آخر ولكنه يحتاج إلى قرينة أخرى حتى يتم الاستعداد، وهذه القوة هي قوة بعيدة. وأما القوة القريبة فهي لا تحتاج إلى أن تقارنها قوة فاعلية قبل القوة الفاعلية التي تنفعل بها، فإن الشجرة ليست بالقوة مفتاحاً لأنها تحتاج إلى أن تلقاها أولاً قوة فاعلية قبل القوة الفاعلية للمفتاحية وهي القوة القالعة والناشرة والناحتة، ثم بعد ذلك تتهيأ لأن تفعل من ملاقاة القوة الفاعلية للمفتاحية. والقوى بعضها يحصل بالطباع وبعضها يحصل بالعادة وبعضها يحصل بالصناعة وبعضها يحصل بالاتفاق. والفرق بين الذي يحصل بالصناعة والذي يحصل بالعادة أن الذي يحصل بالصناعة هو الذي يقصد فيه استعمال مواد وآلات وحركات فتكتسب النفس بذلك ملكة كأنها صورة تلك الصناعة، وأما الذي بالعادة فهو ما يحصل من أفاعيل ليست مقصورة فيها ذلك فقط، بل إنما تصدر عن شهوة أو غضب أو رأي يتوجه فيها القصد إلى غير هذه الغاية. ثم قد تتبعها غاية هي العادة، ولم تقصد، ولا تكون العادة نفس ثبوت تلك الأفاعيل في النفس، وربما لم يكن للعادة آلات ومواد معينة، فإنه لا سواء أن يعتاد إنسان المشي وأن يعتاد التجارة من الجهة التي قلنا وبينهما تفاوت شديد. ومع ذلك فإنك إذا دققت النظر عاد حصول العادة والصناعة إلى جهة واحدة. والقوى التي تكون بالطبع منها ما يكون في الأجسام الغير الحيوانية ومنها ما يكون في الأجسام الحيوانية وقد قال بعض الأوائل، وغاريقوا منهم: إن القوة تكون مع الفعل ولا تتقدمه، وقال بهذا أيضاً قوم من الواردين بعده بحين كثير. فالقائل بهذا القول كأنه يقول: إن القاعد ليس يقوى على القيام أي لا يمكن في جبلته أن يقوم ما لم يقم فكيف يقوم؟ وأن الخشب ليس في جبلته أن ينحت منه باب، فكيف ينحت؟ وهذا القائل لا محالة غير قوي على أن يرى وعلى أن يبصر في اليوم الواحد مراراً، فيكون بالحقيقة أعمى، بل كل ما ليس موجوداً ولا قوة على أن يوجد فإنه مستحيل الوجود. والشيء الذي هو ممكن أن يكون فهو ممكن أن لا يكون وإلاّ كان واجباً أن يكون، والممكن أن يكون لا يخلو إما أن يكون ممكناً أن يكون شيئاً آخر، وأن لا يكون، وهذا هو الموضوع للشيء الذي من شأنه أن تحله صورته. وإما أن يكون كذلك باعتبار نفسه، كالبياض إذ كان يمكن أن يكون وممكن أن لا يكون في نفسه، فهذا لا يخلو إما أن يكون شيئاً إذا وجد كان قائماً بنفسه، حتى يكون إمكان وجوده هو أنه يمكن أن يكون قائماً مجرداً
الصفحة : 89
أو يكون إذا كان موجوداً وجد في غيره. فإن كان الممكن، بمعنى أنه يمكن أن يكون شيئاً في غيره، فإن إمكان وجوده أيضاً في ذلك الغير. فيجب أن يكون ذلك الغير مووداً مع إمكان وجوده وهو موضوعه. وإن كان إذا كان قائماً بنفسه لا في غيره ولا من غيره بوجه من الوجوه، ولا علاقة له مع مادة من المواد علاقة ما يقوم فيها أو يحتاج في أمر ما إليها، فيكون إمكان وجوده سابقاً عليه غير متعلق بمادة دون مادة ولا جوهر دون جوهر. غذ ذلك الشيء لا علاقة له مع شيء، فيكون إمكان وجوده جوهراً لأنه شيء موجود بذاته. وبالجملة إن لم يكن إمكان وجوده حاصلاً كان غير ممكن الوجود ممتنعاً، وإذ هو حاصل موجود قائم بذاته - كما فرض - فهو موجود جوهراً، وإذ له جوهر فله ماهية ليس لها من المضاف إذ كان الجوهر ليس بمضاف الذات، بل يعرض له المضاف فيكون لهذا القائم بذاته وجود أكثر من إمكان وجوده الذي هو به مضاف. وكلامنا في نفس إمكان وجوده، وعليه حكمنا أنه ليس في موضوع، والآن فقد صار أيضاً في موضوع، هذا خلف. فإذ لا يجوز أن يكون لما يبقى قائماً بنفسه لا في موضوع ولا من موضوع بوجه من الوجوه وجود بعد ما لم يكن، بل يجب أن يكون له علاقة ما مع الموضوع حتى يكون. وأما إذا كان الشيء الذي يوجد قائماً بنفسه لكنه يوجد من شيء غيره أو مع وجود شيء غيره، أما الأول فكالجسم من هيولي وصورة، وأما الثاني فكالأنفس الناطقة مع تكون الأبدان، فإن إمكان وجوده يكون متعلقاً بذلك الشيء لا على أن ذلك الشيء بالقوة هو كون الجسم أبيض بالقوة ولا أن فيه قوة أن يوجد هو منطبعاً فيه كون إمكان البياض في الموضوع الذي ينطبع فيه البياض، بل على أن يوجد معه أو عند حال له. فالجسم الذي يحدث كنار حادثة إنما إمكان وجوده هو أن يحدث من المادة والصورة، فلا يكون لإمكان وجوده محل بوجه ما وهو مادته، فيكون الشيء الذي يحدث منه أولاً وهو الصورة يحدث في المادة ويحدث الجسم لاجتماعهما من المادة بوجه ومن الصورة بوجه. وأما النفس فإنها لا تحدث أيضاً إلاّ بوجود موضوع بدني. وحينئذ يكون إمكان وجوده في ذلك قائماً به لاختصاص تلك المادة به، فإن النفس إنما يمكن وجودها بعد ما لم تكن، وهو إمكان حدوثها عند وجود أجسام على نحو من الإمتزاج تصلح أن تكون آلة لها ويتميز بها استحقاق حدوثها من الأوائل من لا استحقاقه عنها. فإذا كان فيها إمكان هذا الإمتزاج فهو إمكان لوجود النفس. وكل جسم فإنه إذا صدر عنه فعل ليس بالعرض ولا بالقسر من جسم آخر فإنه يفعل بقوة ما فيه، أما
الصفحة : 90
الذي بالإرادة والاختيار فلأن ذلك ظاهر وأما الذي ليس بالإرادة والاختيار فلأن ذلك الفعل إما أن يصدر عن ذاته أو يصدر عن شيء مباين له جسماني أو عن شيء مباين له غير جسماني. فإن صدر عن ذاته وذاته تشارك الأجسام الأخرى في الجسمية وتخالفها في صدور ذلك الفعل عنها فإن في ذاته معنى زائد على الجسمية هو مبدأ صدور ذلك الفعل عنه، وهذا هو الذي يسمى قوة؛ وإن كان ذلك عن جسم آخر فيكون هذا الفعل عن هذا الجسم بقسر أو عرض، وقد فرض لا بقسر من جسم آخر ولا عرض. وإن كان عن شيء مفارق فلا يخلو إما أن يكون اختصاص هذا الجسم بهذا التوسط عن ذلك المفارق هو بما هو جسم، أو لقوة فيه، أو لقوة في ذلك المفارق. فإن كان بما هو جسم، فكل جسم يشاركه فيه، لكن ليس يشاركه فيه. وإن كان لقوة فيه فتلك القوة مبدأ صدور ذلك الفعل عنه، وأيضاً إن كان قد يفيض من المفارق وبمعاونته، أو لكونه المبدأ الأول فيه. وأما إن كان لقوة في ذلك المفارق فإما أن تكون نفس تلك القوة توجب ذلك، أو اختصاص إرادة. فإن كان نفس القوة توجب ذلك فلا يخلو أن يكون إيجاب ذلك عن هذا الجسم بعينه لأحد الأمور المذكورة، ويرجع الكلام من رأس. وإما أن يكون على سبيل الإرادة، فلا يخلو إما أن تكون تلك الإرادة ميزت هذا الجسم بخاصية يختص بها من سائر الأجسام، أو جزافاً وكيف اتفق. فإن كان جزافاً كيف اتفق لم يستمر على هذا النظام الأبدي والأكثري، فإن الأمور الاتفاقية هي التي ليست دائمة ولا أكثرية، لكن الأمور طبيعية دائمة وأكثرية فليست باتفاقية. فيبقى أن يكون بخاصية بها يختص من سائر الأجسام، وتكون تلك الخاصية مراداً منها صدور ذلك الفعل، ثم لا يخلو إما أن يراد ذلك لأن تلك الخاصية توجب ذلك الفعل، أو تكون منه في الأكثر، أو لا توجب ولا تكون منه في الأكثر. فإن كان يوجب فهو مبدأ ذلك. وإن كان في الأكثر، والذي في الأكثر - كما علمت في الطبيعيات - هو بعينه الذي يوجب لكن له عائق لأن اختصاصه بأن يكون الأمر أكثر يكون بميل من طبيعته إلى جهة ما يكون منه، فإن لم يكن فيكون لعائق، فيكون الأكثري أيضاً في نفسه موجباً إن لم يكن عائق، ويكون الموجب هو الذي يسلم له الأمر بلا عائق وإن كانت تلك الخاصية لا توجبه ولا تكون منه في الأكثر، فكونه عنه وعن غيره واحد، فاختصاصه به جزاف، وقيل إنه ليس بجزاف. وكذلك إذا قيل: إن كونه صاحب تلك الخاصية أولى، فمعناه أن صدوره عنها أوفق. فهو إذن موجب له أو ميسّر لوجوبه، والميسّر إما علة بالذات وإما بالعرض، فإذا لم تكن أخرى بالذات غيره فليس هو
الصفحة : 91
بالعرض، لأن الذي بالعرض هو على أحد النحوين المذكورين، فبقي أن تلك الخاصية بنفسها موجبة. فالخاصية الموجبة تسمى قوة، وهذه القوة عنها تصدر الأفاعيل الجسمانية وإن كان بمعونة من مبدأ أبعد. ولنؤكد بيان أن لكل حادث مبدأ مادياً، فنقول بالجملة: إن كل حادث بعد ما لم يكن فله لا محالة مادة، لأن كل كائن يحتاج إلى أن يكون - قبل كونه - ممكن الوجود في نفسه، فإنه إن كان ممتنع الوجود في نفسه لم يكن البتة. وليس إمكان وجوده هو أن الفاعل قادر عليه، بل الفاعل لا يقدر عليه إذا لم يكن هو في نفسه ممكناً. ألا ترى أنا نقول: إن المحال لا قدرة عليه، ولكن القدرة هي على ما يمكن أن يكون فلو كان إمكان كون الشيء هو نفس القدرة عليه، كان هذا القول كأنا نقول: إن القدرة إنما تكون على ما عليه القدرة، وكأنا نقول: إن المحال ليس عليه قدرة لأنه ليس عليه قدرة، وما كنا نعرف أن هذا الشيء مقدور عليه أو غير مقدور عليه بنظرنا في نفس الشيء، بل نظرنا في حال قدرة القادر هل عليه قدرة أم لا. فإن أشكل علينا أنه مقدور عليه أو غير مقدور عليه لم يمكننا أن نعرف ذلك البتة، لأنا إن عرفنا ذلك من جهة أن الشيء محال أو ممكن وكان معنى المحال هو أنه غير مقدور عليه ومعنى الممكن أنه مقدور عليه، كنا عرفنا المجهول بالمجهول. فبين واضح أن معنى كون الشيء ممكناً في نفسه هو غير معنى كونه مقدوراً عليه وإن كانا بالموضوع واحداً، وكونه مقدوراً عليه لازم لكونه ممكناً في نفسه، وكونه ممكناً في نفسه هو باعتبار ذاته وكونه مقدوراً عليه هو باعتبار إضافته إلى موجده. وإذا قد تقرر هذا، فإنا نقول: إن كل حادث فإنه قبل حدوثه إما أن يكون في نفسه ممكناً أن يوجد أو محالاً أن يوجد. والمحال أن يوجد لا يوجد. والممكن أن يوجد قد سبقه إمكان وجوده، وأنه ممكن الوجود، فلا يخلو إمكان وجوده من أن يكون معنى معدوماً أو معنى موجوداً، ومحال أن يكون معنى معدوماً وإلاّ فلم يسبقه إمكان وجوده، فهو إذن معنى موجود. وكل معنى موجود فإما قائم في موضوع أو قائم لا في موضوع، وكل ما هو قائم لا في موضوع فله وجود خاص لا يجب أن يكون به مضافاً. وإمكان الوجود إنما هو بالإضافة إلى ما هو إمكان وجود له، فليس إمكان الوجود جوهراً لا في موضوع، فهو إذن معنى في موضوع وعارض لموضوع. ونحن نسمي إمكان الوجود قوة الوجود؛ ونسمي حامل قوة الوجود الذي فيه وجود الشيء موضوعاً وهيولي ومادة وغير ذلك بحسب اعتبارات مختلفة، فإذن كل حادث فقد تقدمته المادة، فنقول: إن هذه الفصول التي أوردناها توهم أن القوة - على الاطلاق - قبل الفعل ومتقدمة عليه لا في الزمان وحده،
الصفحة : 92
وهذا شيء قد مال إليه عامة من القدماء، فبعضهم جعل للهيولي وجوداً قبل الصورة، وأن الفاعل ألبسها الصورة بعد ذلك إما ابتداء من نفسه وإما لداع دعاه إليه، كما ظنه بعض الشارعين فيما لا يعنيه ولا له درجة الخوض في مثله. فقال: إن شيئاً كالنفس وقع له فلتةً أن اشتغل بتدبير الهيولي وتصويرها فلم يحسن التدبير ولا كمل لحسن التصوير، فتداركها الباري تعالى وأحسن تقويمها. ومنهم من قال: إن هذه الأشياء كانت في الأزل تتحرك بطباعها حركات غير منتظمة، فأعان الباري تعالى طبيعتها ونظمها. ومنهم من قال: إن القديم هو الظلمة أو الهاوية أو شيء لا يتناهى لم يزل ساكناً، ثم حرك، أو الخليط الذي يقول به أنكساغورس. وذلك لأنهم قالوا: إن القوة تكون قبل الفعل، كما في البذور والمني وفي جميع ما يصنع، فبالحري أن نتأمل هذا ونتكلم فيه. فنقول: أما الأمر في الأشياء الجزئية الكائنة الفاسدة فهو على ما قالوا، فإن القوة فيها قبل الفعل قبلية في الزمان؛ وأما الأمور الكلية أو المؤبدة التي لا تفسد وإن كانت جزئية فإنها لا تتقدمها التي بالقوة البتة. ثم القوة متأخرة بعد هذه الشرائط من كل وجه، وذلك لأن القوة إذ ليست تقوم بذاتها فلابد لها من أن تقوم بجوهر يحتاج أن يكون بالفعل، فإنه إن لم يكن صار بالفعل فلا يكون مستعداً لقبول شيء، فإن ما هو ليس مطابقاً فليس ممكناً أن يقبل شيئاً. ثم قد يكون الشيء بالفعل ولا يحتاج إلى أن يكون بالقوة شيئاً كالأبديات فإنها دائماً بالفعل. فمن هذه الجهة حقيقة ما بالفعل قبل حقيقة القوة بالذات، ومن وجه آخر أيضاً فإن القوة تحتاج أن تخرج إلى الفعل بشيء موجود بالفعل وقت كون الشيء بالقوة، ليس إنما يحدث ذلك الشيء حدوثاً مع الفعل فإن ذلك أيضاً يحتاج إلى مخرج آخر وينتهي إلى شيء موجود بالفعل لم يحدث. وفي أكثر الأمر فإنما يخرج القوة إلى الفعل شيء مجانس لذلك الفعل موجود قبل الفعل بالفعل كالحار يسخن والبارد يبرد. وأيضاً فكثيراً ما يوجد ما هو بالقوة من هو حامل القوة للشيء الذي هو بالفعل، حتى يكون الفعل بالزمان قبل القوة لا مع القوة، فإن المني كان عن الإنسان والبذر عن الشجرة حتى كان عن ذلك إنسان وعن هذا شجرة. فليس أن يفرض الفعل في هذه الأشياء قبل القوة أولى من أن تفرض القوة قبل الفعل. وأيضاً فإن الفعل في التصور والتحديد قبل القوة، لأنك لا يمكنك أن تحد القوة إلاّ أنها للفعل وأما الفعل فإنك لا تحتاج في تحديده وتصويره أنه للقوة. فإنك تحد المربع وتعقله من غير أن يخطر ببالك قوة مقبولة، ولا يمكنك أن تحد القوة على التربيع إلاّ أن تذكر المربع لفظاً أو عقلاً وتجعله جزء حده.
الصفحة : 93
وأيضاً فإن العقل قبل القوة بالكمال والغاية، فإن القوة نقصان والفعل كمال، والخير في كل شيء إنما هو مع الكون بالفعل؛ وحيث الشر فهناك ما بالقوة بوجه ما، فإن الشيء إذا كان شراً فإما أن يكون لذاته شراً ومن كل وجه، وهذه محال. فإنه إن كان موجوداً فمن حيث هو موجود ليس بشر، وإنما يكون شراً من حيث هو فيه عدم كمال مثل الجهل للجاهل، أو لأنه يوجب في غيره ذلك مثل الظلم للظالم. فالظلم إنما هو شر لأنه ينتقص من الذي فيه الظلم طبيعة الخير، ومن الذي عليه الظلم السلامة أو الغنى، أو غير ذلك. فيكون من حيث هو شر مشوباً بعدم وبشيء بالقوة، ولو أنه لم يكن معه ولا منه ما بالقوة لكانت الكمالات التي تجب للأشياء حاضرة فما كان شراً بوجه من الوجوه. فبين أن الذي بالفعل هو الخير من حيث هو كذلك، والذي بالقوة هو الشر أو منه الشر. واعلم أن القوة على الشر خير من الفعل، والكون بالفعل خيراً خير من القوة على الخير، ولا يكون الشرير شريراً بقوة الشر، بل بملكة الشر. ونرجع إلى ما كنا فيه، فنقول: قد علمت حال تقدم القوة مطلقاً، وأما القوة الجزئية فيتقدم الفعل الذي هو قوة عليه، وقد يتقدمها فعل مثل فعلها حتى تكون القوة منه، ولا يجب لكن يكون معها شيء آخر به تخرج القوة إلى الفعل وإلاّ لم يكن الفعل البتة بموجود. إذ القوة وحدها لا تكفي في أن تكون فعل، بل تحتاج إلى مخرج للقوة إلى الفعل. فقد علمت أن الفعل بالحقيقة أقدم من القوة، وأنه هو المتقدم بالشرف والتمام.
الفصل الثالث (ج)
الصفحة : 94
فصل في التام والناقص وما فوق التمام، وفي الكل، وفي الجميع التام.
أول ما عرف عرف في الأشياء ذوات العدد، إذ كان جميع ما ينبغي أن يكون حاصلاً للشيء قد حصل بالعدد، فلم يبقى شيء من ذلك غير موجود. ثم نقل ذلك إلى الأشياء ذوات الكم المتصل، فقيل: تام في القامة إذا كانت تلك أيضاً عند الجمهور معدودة لأنها إنما تعرف عند الجمهور من حيث تقدر، وإذا قدرت لم يكن بد من أن تعد. ثم نقلوا ذلك إلى الكيفيات والقوى، فقالوا: كذا تام القوة وتام البياض وتام الحسن وتام الخير، كأن جميع ما يجب أن يكون له الخير قد حصل له ولم يبق شيء من خارج. ثم إذا كان من جنس الشيء شيء، وكان لا يحتاج إليه في ضرورة أو منفعة أو نحو ذلك، رأوه زائداً ورأوا الشيء تاماً دونه، ثم إن كان ذلك الذي يحتاج إليه الشيء في نفسه قد حصل وحصل معه شيء آخر من جنسه ليس يحتاج إليه في أصل ذات الشيء إلاّ أنه وإن كان ليس يحتاج إليه في ذلك الشيء فهو نافع في بابه، قيل لجملة ذلك: إنه فوق التمام ووراء الغاية. فهو هو التام والتمام. فكأنه اسم للنهاية، وهو أولاً للعدد، ثم لغيره على الترتيب. وكان الجمهور لا يقولون لذي العدد إنه تام أيضاً إذا كان أقل من ثلاثة، وكذلك كأنهم لا يقولون له كل وجميع. وكأن الثلاثة إنما صارت تامة لأن لها مبدأ وواسطة ونهاية، وإنما كان كون الشيء له مبدأ وواسطة ونهاية تجعله تاماً لأن أصل التمام كان في العدد. ثم لم يكن هذا في طبيعة عدد من الأعداد من حيث هو عدد أن يكون تاماً على الاطلاق، فإن كل عدد فمن جنس وحدانياته ما ليس موجوداً فيه، بل إنما يكون تاماً في العشرية والتسعية، وأما من حيث هو عدد فليس يجوز أن يكون تامتً من حيث هو عدد، وأما من حيث له مبدأ ومنتهى وواسطة فهو تام، لأنه من حيث يكون له مبدأ ومنتهى يكون ناقصاً من جهة ما ليس فيما بينهما شيء من شأنه أن يكون بينهما وهو الواسطة. وقس عليه سائر الأقسام أي أن يكون واسطة وليس منتهى، أو واسطة ومنتهى وقد فقد مايجب أن يكون له مبدأ. ثم من المحال أن يكون مبدآن في الأعداد ليس أحدهما واسطة بوجه إلاّ لعددين ولا منتهيان ليس أحدهما واسطة بوجه إلاّ لعددين. وأما الوسائط فقد يجوز أن تكثر إلاّ أنها تكون جملتها في أنها واسطة كشيء واحد؛ ثم لا يكون للتكثر حد يوقف عليه. فإذن حصول المبدئية والنهاية والتوسط هو أتم ما يمكن أن يقع في ترتيب مثله، ولا يكون ذلك إلاّ للعدد ولا يكون منحصراً إلاّ في الثلاثية.
الصفحة : 95
وإذا اشرنا إلى هذا المبلغ فلنعرض عنه، فليس من عادتنا أن نتكلم في مثل هذه الأشياء التي تبنى على تخمينات إقناعية وليست من طرق القياسات العلمية. بل نقول: إن الحكماء ايضاً قد نقلوا التام إلى حقيقة الوجود، فقالوا من وجه: إن التام هو الذي ليس شيء من شأنه أن يكمل به وجوده بما ليس له بل كل ما هو كذلك فهو حاصل له وقالوا من وجه آخر: إن التام هو الذي بهذه الصفة مع شرط أن وجوده بنفسه على أكمل ما يكون له هو وحده حاصل له وليس منه إلا ما له، وليس ينسب إليه من جنس الوجود شيء فضل على ذلك الشيء نسبة أولية لا بسبب غيره. وفوق التمام ما له الوجود الذي ينبغي له، ويفضل عنه الوجود لسائر الأشياء كأن له وجوده الذي ينبغي له، وله الوجود الزائد الذي ليس ينبغي له، ولكن يفضل عنه للأشياء وذلك من ذاته. ثم جعلوا هذا مرتبة المبدأ الأول الذي هو فوق التمام، ومن وجوده في ذاته لا بسبب غير يفيض الوجود فاضلا عن وجوده على الأشياء كلها. وجعلوا مرتبة التمام لعقل من العقول المفارقة الذي هو في أول وجوده بالفعل لا يخالطه ما بالقوة، ولا ينتظر وجوداً آخر يوجد عنه، فإن كل شيء آخر، فذلك أيضاً من الوجود الفائض من الأول. وجعلوا دون التمام شيئين: المكتفي والناقص. والمكتفي هو الذي أعطى ما به يحصل كمال نفسه في ذاته، والناقص المطلق هو الذي يحتاج إلى آخر يمده الكمال بعد الكمال. مثل المكتفي: النفس النطقية التي للكل، أعني السموات، فإنها بذاتها تفعل الأفعال التي لها وتوجد الكمالات التي يجب أن يكون لها شيء بعد شيء لا تجتمع كلها دفعة واحدة، ولا تبقى أيضاً دائماً إلا ما كان من كمالاتها التي في جوهرها وصورتها، فهو لا يفارق ما بالقوة وإن كان فيه مبدأ يخرج قوته إلى الفعل، كما تعلم هذا بعد. وأما الناقص فهو مثل هذه الأشياء التي في الكون والفساد. ولفظ التمام ولفظ الكل ولفظ الجميع تكاد تكون متقاربة الدلالة. لكن التمام ليس من شرطه أن يحيط بكثرة بالقوة أو بالفعل. وأما الكل فيجب أن يكون لكثرة بالقوة أو بالفعل، بل الوحدة في كثير من الأشياء هو الوجود الذي ينبغي له. وأما التمام في الأشياء ذوات المقادير والأعداد فيشبه أن يكون هو بعينه الكل في الموضوع. فالشيء "تام" من حيث أنه لم يبق شيء خارجاً عنه وهو "كل" لأن ما يحتاج إليه حاصل فيه فه بالقياس إلى الكثرة الموجودة المحصورة فيه "كل" وبالقياس إلى ما لم يبق خارجاً عنه "تام". ثم قد اختلف في لفظي الكل والجميع على اعتباريهما، فتارة يقولون: إن الكل يقال للمتصل والمنفصل،
الصفحة : 96
والجميع لا يقال إلا للمنفصل، وتارة يقولون: إن الجميع يقال خاصة لما ليس لوضعه اختلاف والكل لما لوضعه اختلاف، ويقال: "كل" و"جميع" معاً لما يكون له الحالان جميعاً. وأنت تعلم هذه الألفاظ يجب أن تستعمل على ما يقع عليه الإصطلاح والأحرى من وجه أن يقال: "كل" لما كان فيه انفصال حتى يكون له جزء فإن الكل يقال بالقياس إلى الجزء، والجميع أيضاً يجب أن يكون كذلك. فإن الجميع من جمع، والجمع إنما يكون لآحاد بالفعل أو وحدات بالفعل، لكن الاستعمال قد اطلقه على ما كان أيضاً جزؤه وواحده بالقوة. فكأن الكل يعتبر فيه أن يكون في الأصل بإزاء الجزء، والجميع بإزاء الواحد، كأن الكل يعتبر فيه أن يكون له ما بعده، وإن لم يلتفت إلى وحدته، وكأن الجميع يعتبر فيه أن يكون فيه آحاد وإن لم يلتفت إلى عده. وكأن هذا القول كله من الفضل، فإن الإصطلاح أجراهما بعد ذلك مجرى واحداً حتى صار أيضاً يقال الكل والجميع في غير ذوات الكمية، إذ كان لها أن تتكمم بالعرض كالبياض كله والسواد كله، أو كان لها أن تشتد وتضعف كالحرارة كلها والقوة كلها. ويقال للمركب من أشياء تختلف كالحيوان "كل" إذ هو من نفس وبدن. وأما الجزء فإنه تارة يقال لما يُعد وتارة لما يكون شيئاً من الشيء و له غيره معه وإن كان لا يَعُدّه، وربما خُصّ هذا بإسم البعض. ومن الجزء ما ينقسم إليه الشيء لا في الكم، بل في الوجود، مثل النفس والبدن للحيوان، والهيولي والصورة للمركب؛ وبالجملة ما يتركب منه المركب لمختلف المبادئ.
الصفحة : 97
المقالة الخامسة
وفيها تسعة فصول

الفصل الأول (أ)
فصل في الأمور العامة وكيفية وجودها.
وبالحري أن نتكلم الآن في الكلي والجزئي، فأنه مناسب أيضاً لما فرغنا منه، وهو من الأعراض الخاصة بالوجود، فنقول: إن الكلي قد يقال على وجوه ثلاثة: فيقال كلي للمعنى من جهة أنه مقول بالفعل على كثيرين، مثل الإنسان. ويقال كلي للمعنى إذا كان جائزاً أن يحمل على كثيرين وإن لم يشترط أنهم موجودون بالفعل، مثل معنى البيت المسبع، فإنه كلي من حيث أن من طبيعته أن يقال على كثيرين، ولكن ليس يجب أن يكون أولئك الكثيرين لا محالة موجودين بل ولا الواحد منهم. ويقال كلي للمعنى الذي لا مانع من تصوره أن يقال على الكثيرين؛ إنما يمنع منه إن مَنعَ سبب ويدل عليه دليل، مثل الشمس والأرض، فإنها من حيث تعقل شمساً وأرضاً لا يمنع الذهن عن أن يجوز أن معناه يوجد في كثير، إلا أن يأتيه دليل أو حجة يعرف به أن هذا ممتنع. ويكون ذلك ممتنعاً بسبب من خارج لا لنفس تصوره. وقد يمكن ان يجمع هذا كله في أن هذا الكلي هو الذي لا يمنع نفس تصوره عن ان يقال على كثيرين. ويجب أن يكون الكلي المستعمل في المنطق وما أشبهه هو هذا. وأما الجزئي المفرد فهو الذي نفس تصوره يمنع أن يقال معناه على كثيرين كذات زيد هذا المشار إليه، فإنه يستحيل أن تتوهم إلا له وحده. فالكلي من حيث هو كلي شيء، ومن حيث هو شيء تلحقه الكلية شيء. فالكلي من حيث هو كلي هو ما يدل عليه أحد هذه الحدود، فإذا كان ذلك إنساناً أو فرساً فهناك معنى آخر غير معنى الكلية وهو الفرسية. فإن حد الفرسية ليس حد الكلية، ولا الكلية داخلة في حد الفرسية، فإن الفرسية لها حد لا يفتقر إلى حد الكلية لكن تعرض له الكلية. فإنه في نفسه ليس شيء من الأشياء البتة إلا الفرسية، فإنه في نفسه لا واحد ولا كثير ولا موجود في الأعيان ولا في النفس ولا في شيء من ذلك بالقوة ولا بالفعل على أن يكون داخلاً في الفرسية، بل من حيث هو فرسية فقط. بل الواحدية صفة تقترن إلى الفرسية؛ فتكون
الصفحة : 98
الفرسية مع تلك الصفة واحدة. كذلك للفرسية مع تلك الصفة صفات أخرى كثيرة داخلة عليها، فالفرسية - بشرط أنها تطابق بحدها أشياء كثيرة - تكون عامة، ولأنها مأخوذة بخواص وأعراض مشار إليها تكون خاصة. فالفرسية في نفسها فرسية فقط. فإن سألنا عن الفرسية لطرفي نقيض، مثلاً: هل الفرسية ألف أم ليس بألف؟ لم يكن الجواب إلا بالسلب لأي شيء كان. ليس على أن السلب بعد "من حيث"، بل على أنه قبل "من حيث". أي ليس يجب أن يقال: إن الفرسية من حيث هي فرسية ليست بألف، بل ليست من حيث هي فرسية بألف ولا شيء من الأشياء. فإن طرفا المسألة عن موجبتين لا يخلو منهما شيء، لم يلزم أن نجيب عنهما البتة. وبهذا يفترق حكم الموجبة والسالبة والموجبتين اللتين في قوة النقيضين. وذلك لأن الموجب منهما الذي هو لازم للسالب معناه أنه إذا لم يكن الشيء موصوفاً بذلك الموجب الآخر كان موصوفاً بهذا الموجب، وليس إذا كان موصوفاً به كان ماهيته هو، فإنه ليس إذا كان الإنسان واحداً أو أبيض كانت هوية الإنسانية هي هوية الوحدة أو البياض، أو كانت هوية الإنسانية هي هوية الواحد أو الأبيض. فإذا جعلنا الموضوع في المسألة هوية الإنسانية من حيث هي إنسانية كشيء واحد، وسئل عن طرفي نقيض، فقيل: أواحد هو أم كثير؟ لم يلزم أن يجاب لأنها من حيث هي هوية الإنسانية شيء غير كل واحد منهما، ولا يوجد في حد ذلك الشيء إلا الإنسانية فقط. وأما أنه هل يوصف بأنه واحد أو كثير على أنه وصف يلحقه من خارج، فلا محالة أنه يوصف بذلك، ولكن لا يكون هو ذلك الموصوف من حيث هو إنسانية فقط، فلا يكون من حيث هو إنسانية هو كثيراً بل إنما يكون كأن ذلك شيء يلحقه من خارج. فإذا كان نظرنا إليه من حيث هو إنسانية فقط، فلا يجب أن نشوبه بنظر إلى شيء من خارج يجعل النظر نظرين: نظر إليه بما هو هو، ونظر إلى لواحقه. ومن حيث النظر الواحد الأول لا يكون إلا الإنسانية فقط، فلهذا إن قال قائل: إن الإنسانية التي في زيد من حيث هي إنسانية هل هي غير التي في عمرو؟ فيلزم أن يقول: لا. وليس يلزم من تسليمه هذا أن يقول: فإذن تلك وهي واحدة بالعدد، لأن هذا كان سلباً مطلقاً، وعنينا بهذا السلب أن تلك الإنسانية من حيث هي إنسانية هي إنسانية فقط، وكونها غير التي في عمرو شيء من خارج. فإنه إن لم يكن ذلك خارجاً عن الإنسانية لزم أن تكون الإنسانية من
الصفحة : 99
حيث هي إنسانية ألفاً مثلاً أو ليست بألف، وقد أبطلنا ذلك، وإنما أخذنا الإنسانية من حيث هي إنسانية فقط. على أنه إذا قيل: الإنسانية التي في زيد من حيث هي إنسانية يكون قد جعلها اعتباراً من حيث هي إنسانية، ساقطاً عنها أنها في زيد وأنها التي في زيد، وإلاّ نكون قد أخذنا الإنسانية على أنها في زيد، فإنا قد جردناها وتكلمنا على أنا نلتفت إليها وهي إنسانية. ثم لا يخلو إما أن نرجع الكناية التي في أنها إلى الإنسانية التي في زيد، فيكون هذامحالاً من القول، فإنه لا تجتمع أن تكون إنسانية في زيد وهي باعتبار أنها إنسانية فقط. وإن رجعت إلى الإنسانية فقط فذكر زيد لغواً إلا أن تعني أن الإنسانية التي عرض لها من خارج أن كانت في زيد وقد أسقطنا عنها أنها في زيد، فهل هي هكذا؟ وهذا أيضاً فيه اعتبار غير الإنسانية. فإن سألنا سائل وقال: ألستم تجيبون وتقولون: إنها ليست كذا وكذا، وكونا ليست كذا وكذا غير كونها إنسانية بما هي إنسانية. فنقول: إنا لا نجيب بأنها من، حيث هي إنسانية، ليست كذا، بل نجيب أنها ليست من حيث إنسانية كذا، وقد علم الفرق بينهما في المنطق. وههنا شيء آخر وهو أن الموضوع في مثل هذه المسائل يكاد يرجع إلى الإهمال إذا لم تعلق بحصر ولا يكون عنها جواب، اللهم إلا أن تجعل تلك الإنسانية كأنها مشار إليها أو لا كثرة فيها. فحينئذ لا يكون قولنا: "من حيث هي إنسانية" جزءاً من الموضوع، لأنه لا يصلح أن يقال: إن الإنسانية التي هي من حيث هي إنسانية إلا وقد عادت مهملة. فإن قيل: تلك الإنسانية التي هي من حيث إنسانية، يكون قد وقع إليها الإشارة فزادت على الإنسانية. ثم إن سألنا في ذلك فيكون الطرفان من المسألة مسلوبين عنها، ولم يجب أن يكون واحداً أو كثيراً هو هو أو غيره إلا على معنى أنه لابد له أن يكون هو هو أو غير. فحينئذ نقول: لابد لها من أن تصير غيراً بالأعراض التي معها، إذ لا توجد البتة إلا مع الأعراض. وحينئذ لا تكون مأخوذة من حيث هي إنسانية فقط، فإذا ليست إنسانية عمرو فهي غير إنسانية بالأعراض، فيكون لهذه الأعراض تأثير في شخص زيد بأنه مجموع الإنسان أو الإنسانية فأعراض لازمة كأنها أجزاء منه، وتأثير الإنسان أو الإنسانية بأنها منسوبة إليه. ونعود من رأس ونجمع هذا ونخبر عنه بعبارة أخرى كالمذكر لما سلف من قولنا، فنقول: إن ههنا شيئاً محسوساً هو الحيوان أو الإنسان مع مادة وعوارض، وهذا هو الإنسان الطبيعي. وههنا شيء هو
الصفحة : 100
الحيوان أو الإنسان منظوراً إلى ذاته بما هو هو، غير مأخوذ معه ما خالطه، وغير مشترط فيه أنه عام أو خاص أو واحد أو كثير بالفعل ولا باعتبار القوة أيضاً من حيث هو بالقوة. إذ الحيوان بما هو حيوان، والإنسان بما هو إنسان أي باعتبار حده ومعناه، غير ملتفت إلى أمور أخرى تقارنه، ليس إلا حيواناً أو إنساناً. وأما الحيوان العام، والحيوان الشخصي، والحيوان من جهة اعتبار أنه بالقوة، عام أو خاص، والحيوان باعتبار أنه موجود في الأعيان، أو معقول في النفس، هو حيوان وشيء وليس هو حيواناً منظور إليه وحده. ومعلوم أنه إذا كان حيوان وشيء كان فيهما الحيوان كالجزء منهما. وكذلك في جانب الإنسان. ويكون اعتبار الحيوان بذاته جائزاً وإن كان مع غيره، لأن ذاته مع غيره ذاته. فذاته له بذاته؛ وكونه مع غيره أمر عارض له أو لازم ما لطبيعته كالحيوانية والإنسانية. فهذا الاعتبار متقدم في الوجود على الحيوان الذي هو شخصي بعوارضه أو كلي وجودي، أو عقلي، تقدم البسيط على المركب، والجزء على الكل. وبهذا الوجود لا هو جنس ولا نوع ولا شخص ولا واحد ولا كثير، بل هو بهذا الوجود حيوان فقط وإنسان فقط. لكنه يلزمه لا محالة أن يكون واحداً أو كثيراً، إذ لا يخلو عنهما شيء موجود، على أن ذلك لازم له من خارج. وهذا الحيوان بهذا الشرط وإن كان موجوداً في كل شخص فليس هو بهذا الشرط حيواناً ما، وإن كان يلزمه أن يصير حيواناً ما لأنه في حقيقته وماهيته بهذا الاعتبار حيوان ما. وليس يمنع كون الحيوان الموجود في الشخص حيواناً ما أن يكون الحيوان بما هو حيوان لا باعتبار أنه حيوان بحال ما موجود فيه، لأنه إذا كان هذا الشخص حيواناً ما، فحيوان ما موجود، فالحيوان الذي هو جزء من حيوان ما موجود، كالبياض فإنه وإن كان غير المفارق للمادة فهو ببياضيته موجود في المادة على أنه شيء آخر معتبر بذاته وذو حقيقة بذاته، وإن كان عرض تلك الحقيقة أن تقارن في الوجود أمراً آخر. ولقائل أن يقول: إن الحيوان بما هو حيوان غير موجود في الأشخاص، لأن الموجود في الأشخاص هو حيوان ما لا الحيوان بما هو حيوان. ثم الحيوان بما هو حيوان موجود، فهو إذن مفارق للأشخاص. ولو كان الحيوان بما هو حيوان موجوداً لهذا الشخص، لم يخل إما أن يكون خاصاً له أو غير خاص؛ فإذا كان خاصاً له لم يكن الحيوان بما هو حيوان هو الموجود فيه أو هو، بل حيوان ما؛ وإن كان غير خاص كان كل شيء واحد بعينه بالعدد موجوداً في الكثرة، وهذه محال....lanjut klik http://www.muslimphilosophy.com/books/ilhyat.htm
62